تمارين الغياب

17 سبتمبر 2015
أغيبُ -ولابدّ أن أعودَ أليّ- (Getty)
+ الخط -

اليوم الأخير في هذا المكان!
أغيبُ في دم الجزيرة ودم الذين كتبوا المدن الملونة وأغاني القرى التي تبخرت، أحملُ الحريق إلى سلالتي/ السنابل والقصائد وغبار الشوارع/ تاركاً طحين العيون يسيلُ في الرسالة، أحملُ قلبي الملتهب كأصلِ الشمس إلى (الزعلِ) والعناد، وأتركُ أصابعي تلطخ الفراغ برماد القصيدة!


أغيبُ، -بلا ملامح- ولا أستطيعُ الإقلاع أو الغرق مثل السفنِ والطائرات، حقيبتي تحت رأسي ويدي على خريطة العالم، أحلمُ بالسهول التي زرعناها وأطعمتنا الوحول، المناجل التي حصدت أرواحنا قبل السنابل نكتب بها أسماءنا في الطرقات، الكتب التي قرأناها لم تمنحنا سوى الكذب والشعارات، الأحلام التي نتقيؤها في المراحيض العامة وعلى مقاعد الحافلات عطلت نجمة الصباح، حياتنا التي نقذفها إلى البحر، تضامناً مع من لا يملكون الحياة يتهمونها بالجنون، الفتاة التي تحاورني عن العشق ورائحة الأرض ينطفئ لهاثها في السرير، كيف قرأتُ كل هذا؟ ولا شيء في معدتي لا عطر في سريري، أنا ممتلئ بالقهر والجوع ... وأريد أن أنام!

أغيبُ -أنا ضجرٌ بما يكفي- أمتصّ المعنى من رمادِ الحريق وأخرجُ من ضوضائي إلى ضوضاءِ المدينة لأنثر حياتي سطراً سطرا لأيةِ عابرةِ سبيل، لأتنفس غبار روحي وأنفخُ على الحنين كي يبرد، لأترك قلبي المدرب كالكلابِ يعوي على الذكرياتِ والأصدقاء والكآبة، لأترك قصيدتي تلهث كالثأر وتعرضُ أحزانها على الذين رموا أحذية النار في حقولِ الحرب وماتوا موت التراب في معارك الريح.

أغيبُ -وأنا بلا وطن وجواز سفر وسجائر- لأكتب لأمي التي طال غيابها وصار مملاً، أمي التي تركتني وحيداً أواجه عواصف النساء وطعنات الأصدقاء بقلبي الأعزل، لأبي الذي لم يصف لي يوماً رائحة الشبع أو جسد امرأة، لأصدقاءٍ لا أملك عناوينهم الآن، لنساءٍ -لا أعرفهن- يمضغن دخان شهوتي خلف زجاج المحلات دون أن يلتفتن لصراخي، لأكتب لكِ وأنا أتأمل وجهكِ في أنهارِ بلادي وأشرب ابتسامتكِ الحلوة في مقهى الذكرى والنسيان.

أغيبُ -ولابدّ أن أعودَ أليّ- سأعود من قطارِ الحرب، وأنحدر باتجاه الشوارع وكتب الأرصفة وقصص العشب وأسئلة يديكِ، باتجاه رائحةِ بائعةِ القيمرِ ونهر من الحناء يفيض بالعيون الرمادية وآيات النسيان، أمرُّ على المقابر لأخذِ قسطٍ من الموت، أمرُّ على مدن النجوم وظلال القرى المحنطة، على أشجار المواعيد المقطوعة وصرير سريري المائل، -لستُ ممن يخدعون الناس- أمرُّ على الحواجز والدبابات وجنود الإجازات القصيرة، على السواتر والرصاص وقذائف الشعر في وضح النهار، على زهرةٍ من حجر وامرأة مشوّهة بالحب والفرح، أمرُّ على القصيدة بأصابعي المرتبكة وأمسك لجام قلبي الصاهل في براري الحنين الشاسعة، أمرُّ على كلِّ هذا الخراب وأسميه وطناً.

أغيب وفي الغياب حكمة كتبت بدم الجزيرة ودم الذين كتبوا، أينما تذهب تفضحك رائحة السنابل وأسراب الزرازير!

(سورية)

دلالات
المساهمون