تلك اللحظات الخالدة

14 اغسطس 2015

معين بسيسو .. في لحظة قال لي إنه سيموت

+ الخط -
كانت تحتضر. جدتي خديجة في المائة أو أقل قليلاً. أمي ونساء الحارة في المخيم اجتمعن حول جسدها النحيل. دخلت إلى غرفتها حزيناً، ولم يكن هناك رجل غيري. أمسكت يدها فضغطت على يدي، فأحسست بطراوة جلدها ورقّة عظامها، وانساب عمرها الطويل في جسدي، فسرت قشعريرة الموت في روحي، وظل إحساسي بتلك اللمسة يرافقني إلى اليوم. كان ذلك في منتصف الثمانينيات. أنظر الى يدي، فأحس بلمس يدها، وكأن طراوة جلدها تأبى أن تفارقني. 
قبل ثلاثة شهور من رحيله، زرتُ، وصديقي حسن البطل، ياسر عرفات في رام الله. استقبلنا منفردين معه في ذلك الرواق ما بين مبنييّ المقاطعة الذي قضى فيه آخر أيامه، يجلس إلى طاولة صغيرة، عليها أوراق تنتظر توقيعه، وتقارير ليقرأها، وقطع من الشوكولاتة الرخيصة. قدّم لنا قطعتيّ شوكولاتة بيده الصغيرة، الرقيقة كيد طفل رضيع. في تلك اللحظة الحميمة، وقعت عيناي على كم قميصه الكاكيّ. كان مهترئاً يعلوه ما وقع عليه من عرقه الممزوج بتلك الخلايا الدقيقة التي تمتصها ملوحة العرق، لتصير ما يمكن أن يكون صفة واضحة من صفات المشوار الطويل لحياة بائسة، لا فسحة فيها للذات المرفهة. لم يقهر الزمن ولا استطاع النسيان أن يأخذ حيزاً حيّاً، كي أرى غير ما رأيت في تلك اللحظة التي اعتصرت قلبي، وجعلت ذاكرتي تكتنز أسىً لا يضمحل.
في العاشرة، وكنت أمام مركز توزيع الإعاشة من وكالة غوث اللاجئين في عين الحلوة، لمساعدة جدتي في حمل قسط العائلة من طحين وسمن وعدس وبرغل وحليب جاف، دهست شاحنة وكالة الغوث طفلاً غافلاً، قد يكون في ذلك الزمن، قبل أكثر من نصف قرن، لم يتجاوز السادسة، فانفجر رأسه، وغطى دمه سترته الرمادية الفقيرة، وانساب على جزمته المطاطية السوداء، التي كانت تشبه جزمتي وجزمات أطفال اللاجئين جميعاً. في تلك اللحظة، رأيت الموت، ورأيت الدم الذي لم يغب عن عمري الطويل بأسباب غير الدهس، وصار مقتل ذلك الطفل معموديةً، لا تنزاح مما اختزنته ذاكرة الطفل الذي كنته.
عندما جاء معين بسيسو إلى تلك الحفلة في لندن، قبل أسبوع من وفاته، وحيداً في غرفة هوتيل إنتركونتينتال في لندن، كان فلسطينيون وبريطانيون وعرب منشغلين ببعضهم بعضاً، وكان معين ساهم الروح، يتحرك بينهم كأنه طيفٌ رقيق شفاف، أو روحٌ خفيّ لا يراه بشر. كنت أراه. والتقت عيوننا في لحظة لا يمكن للغة بشرية أن تمنحها معنىً. في تلك اللحظة بالذات، خلت أنه كان يقول لي إنه سيموت. لم أدرك ما قاله لقاء عينيه بعينيّ إلاّ عندما هاتفني صديق، وأخبرني كيف وجدوا معين بسيسو ميتاً في غرفته، ولم يكن معه سوى شعره وحنينه إلى غزة، التي لم يعد إليها، لا حيّاً ولا ميتاً.
كنت أنتظرها في "الريغوستو" في شارع الحمراء في بيروت، ولم أكن قد قابلتها، وكانت لا تعرف المكان، ولم تكن تألف الشارع. أنا على شرفة الريغوستو والشارع أمامي، وفجأة يسير فستانٌ مزينٌ بالورد الجوري الأحمر والأصفر، وينبعث منه عطرٌ يسكر الشارع كله، وينشر فرحاً بلون الأرجوان. كان كل هذا الاحتفال المعطر لي، بعد أن كادت روحي أن تندثر في غياهب اليأس، وتتدثر بأثواب الكآبة. في تلك اللحظة بالذات، تذكرت يدي الصغيرة التي كانت تمتد باحثةً عمن يصاحبها في الطريق الطويل، وانتشيت بإشعاع وجودها.
وها أنا أتساءل، منذ أن قبّلت ابني من فمه، كيف لرائحة الطفل الرضيع أن تحمل كل هذا الانتشاء من غير أن يكون سر الرائحة آتياً على مهلٍ جميل من طعم الحليب في ثدي أمه. كل يوم تقول لي شام، ابنتي، وأنا في منتصف الستين: استنشق رائحة فمي، يا أبي، ففيها إكسير الحياة والفتوة والريعان والأحلام التي لا تخيب.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.