الاختيارُ صائبٌ ومهمّ. تكريم سينمائية لبنانية أمرٌ يدعو إلى التأمل في أحوال تلك الصناعة الملتبسة الأشكال والجوانب، والمنفتحة على اختبارات جمّة سيكون بعضها، على الأقلّ، أحد أبرز ركائز "السينما اللبنانية الجديدة"، المولودة غداة الانتهاء المزعوم للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). هذا كلّه جزءٌ من حيوية غريبة في مدينة تعيش حالات ملتبسة ومعقّدة وتائهة بين إيجابيات قليلة وخراب عظيم. والخراب نفسه مدوَّنُ، بصريًا، في بعض أبرز أفلام المخرجة السينمائية اللبنانية، التي تُكرِّمها "جمعية متروبوليس"، في إطار برنامجها الخاصّ بتكريم سينمائيين لبنانيين وعرب وأجانب.
فبين 25 يونيو/ حزيران والأول من يوليو/ تموز 2018، تُنظِّم الجمعية "استعادة سينمائية" لأفلام المخرجة اللبنانية رندة الشهّال، عشية الذكرى الـ10 لرحيلها. الذكرى نفسها دافعٌ إلى تكريمها في الدورة الـ5 (19 ـ 26 أبريل/ نيسان 2018) لـ"مهرجان طرابلس للأفلام" (شمال لبنان). ففي 25 أغسطس/ آب 2008، تحلّ الذكرى الـ10 لغيابها، وعلى المهتمّين بالشأن السينمائي اللبناني إيجاد سبلٍ مختلفة لتكريم مخرجةٍ لها دور كبير وفاعل في بلورة أفق ثقافي ما لسينما محلية تُعنى بالشأن اللبناني، وتنفتح على الخارطة العربية، وتُنشئ علاقة مهنية وجمالية بالغرب.
ورندة الشهّال (1953 ـ 2008) منخرطةٌ في تأسيس تلك السينما التي تصطدم باندلاع الحرب اللبنانية، والتي تجتهد لصمودٍ في بلدٍ غارقٍ في عنف أهله وبعض المحيطين بهم. فالتأسيس نابعٌ من هزيمة الاختبارات اللبنانية بين أربعينيات القرن الـ20 وستينياته تحديدًا، الساعية (الاختبارات) إلى ابتكار نمطٍ لبناني بحت في اشتغال بصري ودرامي وجمالي. والهزيمة ناشئةٌ من سطوة الحالة المصرية الحاضرة في لبنان إثر قرارات التأميم المصرية بدءًا من نهاية خمسينيات القرن المنصرم، ومن فعالية المال الفلسطيني، المموِّل الأبرز لمشاريع سينمائية تجمع اللبناني اليساري القومي العربي بالنضال الفلسطيني ضد إسرائيل.
ستكون "السينما (اللبنانية) البديلة" الإجابة الواضحة على هزيمة الاختبارات القليلة السابقة، وعلى سيطرة الحالة المصرية والفلسطينية، علمًا أن الغالبية الساحقة من سينمائييها ملتزمة فلسطين وقضيتها، والفلسطينيين وأحوالهم في المخيمات اللبنانية، كما في بقاعٍ عربية قريبة. لكن هؤلاء المخرجين ـ ورندة الشهّال معهم ـ سيجمعون في أفلامهم ومشاريعهم بين القضايا الأبرز في تلك المرحلة (فلسطين، الصراعات اللبنانية عشية اندلاع الحرب الأهلية، المواجهات الصاخبة بين يسارٍ ويمين، المسائل الاجتماعية المحلية، إلخ.) ومحاولات دؤوبة لإيجاد لغة سينمائية تمتلك خصائص التعبير البصري وتفاصيله ومتطلّباته المتنوّعة.
الاستعادة البيروتية الجديدة لأفلام رندة الشهّال (8 عناوين روائية ووثائقية) كفيلةٌ بالتنبّه إلى الارتباط الوثيق بين السينمائية الراحلة وأحوال بيئتها المحلية والامتداد العربي لتلك البيئة، خصوصًا مع "شاشات الرمل" (1991، 90 د.)، الباحث في أحوال المرأة العربية وانفعالاتها ومشاغلها اليومية، وفي حصارها داخل ثقافات متزمّتة ومسالك تربوية محافظة؛ و"المخادعون" (1997، 58 د.)، المتوغّل في صراع دائر بين أصوليين ورجال أمن واستخبارات في دول عربية (شمال أفريقيا). أحوال المرأة ككائن بشريّ حاضرةٌ أيضًا في أكثر من فيلم للشهّال: في الروائيين الطويلين "متحضّرات" (1999، 97 د.) و"طيارة من ورق" (2003، 78 د.) آخر أفلامها، والفائز بجائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ60 (27 أغسطس/ آب ـ 6 سبتمبر/ أيلول 2003) لـ"مهرجان البندقية السينمائي الدولي (لا موسترا)"؛ بالإضافة إلى الوثائقي "سهى، إرادة حياة" (2000، 56 د.).
لن يكون غريبًا على رندة الشهّال أن تُنجز فيلمًا عن المناضلة الشيوعية اللبنانية سهى بشارة (1967)، بعد وقتٍ قصيرٍ على إطلاق سراحها من معتقل الخيام (جنوب لبنان)، الذي تمضي فيه 10 أعوام، إثر محاولتها اغتيال العميل اللبناني لإسرائيل أنطوان لحد، قائد "جيش لبنان الجنوبي"، مساء 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988 (سيُطلق سراحها في 3 سبتمبر/ أيلول 1998). فالسينمائية معنيّة بالنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، وسهى بشارة نموذج لبناني لمعنى المواجهة، والوثائقي حفظٌ لذاكرة محمّلة بأحد الأعمال البطولية في مقارعة عملاء العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان. والسينمائية منجذبة إلى أحوال بلدها أيضًا، ومنتبهةٌ إلى أولوية حفظ الذاكرة، ما يجعلها تُنجز "حروبنا الطائشة" (وثائقي، 1995، 52 د.)، الذي يتناول سيرة عائلتها ونضالات أفرادها في معارك وجود ومصير، في الداخل اللبناني، وعبر "منظمة العمل الشيوعي"، واشتغالاتها المختلفة.
أما الروائيان المعنيان بالمرأة، فيتناولان حكاياتها خلال الحرب الأهلية اللبنانية (متحضرات)، أو في بلدة عربية يقع نصفها تحت الاحتلال الإسرائيلي. في "متحضّرات"، تعاين الشهّال يوميات نساء في مبنى محاصر بحروب الداخل اللبناني؛ وفي "طيارة من ورق"، تتوغّل في أحوال فتاةٍ منتمية إلى الطائفة الدرزية، يُراد لها أن تتزوّج قريبها المُقيم في الجانب المحتلّ من الجولان.
هذه الاستعادة تتيح للمهتمّ فرصة مشاهدة/ إعادة مشاهدة فيلمين قديمين لها أيضًا: "خطوة خطوة" (وثائقي، 1978، 80 د.) و"لبنان أيام زمان" (روائي قصير، 1980، 12 د.).