19 أكتوبر 2019
تفكيك أميركي للنظام الدولي؟
تميّزت الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي عُقدت الشهر الماضي في نيويورك، بتعارض شديد بين تصور أحادي متشدّد عبّر عنه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وتصورات بشأن العمل الجماعي، عبّر عنها زعماء عدة دول، في مقدمتهم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون.
يذكّرنا هذا التعارض بذلك الذي عرفه العالم خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي جورج بوش الابن، وخصوصا في العام 2002 ومطالع 2003، تحضيراً لغزو العراق واحتلاله. إلا أن الجديد في هذا التعارض الجديد القديم، هذه المرّة، أن الأمر لا يتعلق بجنوح قوي للولايات المتحدة إلى استخدام القوة العسكرية، متجاوزة مجلس الأمن، وإنما في الجنوح المتشدّد نحو فرض القوانين الأميركية على العالم، وتحويله إلى ملحق للتراب الأميركي، من حيث الصلاحية القانونية. وهو خرقٌ ما بعده خرقٌ لسيادة الدول المتعارف عليها، وأيضاً في تفكيك النظام الدولي الذي لعبت الولايات المتحدة دوراً ريادياً في تأسيسِه، وفي الحفاظ عليه.
طبعاً، محاولة أميركا فرض قوانينها خارج ترابها ليست جديدةً، فقد سبق مثلاً لإدارة كلينتون أن انتهجت الاستراتيجية ذاتها من خلال قوانين هولمس - بيرتن ودامتو- كينيدي عام 1996، حيث أضفت بعداً دولياً على قانونها الخاص بحظر تعاملات تفوق قيمتُها 40 مليون دولار مع كل من إيران وليبيا وكوبا. وقد تسببت تلك القوانين حينها، كما الحال مع القانون الحالي، في توتر بين أميركا وحلفائها الأوروبيين، خصوصا فرنسا (شركة توتال الفرنسية وقعت حينها على صفقة نفطية مع إيران).
لكن مديح العمل المتعدّد الأطراف يبقى ضعيفاً في وجه مديح العمل الأحادي لثلاثة أسباب
أساسية. أولاً دعاة العمل المتعدّد الأطراف يتفقون على مبدأ واحد، هو رفض الأحادية في إدارة العلاقات الدولية، نظراً لتعقدها وتداخل المصالح، لكنهم يختلفون في كل ما عدا ذلك. ولا يجادل اثنان في أن النهج المتعدّد الأطراف الذي تقول به فرنسا والدول الأوروبية يختلف عن ذلك الذي تقول به روسيا. ثانياً لا يتقاسم دعاة هذا النهج مصالح استراتيجية، بما فيه الكفاية تجعلهم يشكلون جبهةً واحدةً في مواجهة النزعة الأحادية لأميركا ترامب. ثالثاً، على عكس أميركا، صاحبة النهج الأحادي التي يتميز موقفها بالتطابق بين القول والفعل، فإن دعاة النهج المتعدّد الأطراف يكتفون إلى حد الآن بالقول. ما يجعل موقفهم أقرب من التمنّي والطموح منه إلى السياسة الواقعية.
يعود هذا الفارق إلى عدّة عوامل، منها تشتّت صفوف القوى المنادية بالعمل المتعدّد الأطراف وتعارض مصالحها، وكذلك عدم قدرتها على موازنة القوة الأميركية، فضلاً عن شك الأوروبيين في نيات روسيا وتخوفهم من أن تستغل هذه الدعوة لفك الترابط الاستراتيجي بين ضفتي الأطلسي، ترابط أصبح مترهّلاً بسبب سياسة ترامب.
هناك مدخلان أساسيان توظفهما إدارة ترامب، لبسط الصلاحية القانونية للترسانة التشريعية الأميركية على بقية العالم. المدخل الأول سياسي - استراتيجي بامتياز، ولكن ينفذ بأدوات اقتصادية بالأساس: العقوبات الاقتصادية. وهي استراتيجيةٌ قديمةٌ ومتجذّرةٌ في السياسة الأميركية. وهناك صنفان من العقوبات: الأول، عقوبات ثنائية البعد تماماً، أي أنها تفرض من دولة على أخرى، من دون أن تكون لها تبعاتٌ على أطراف ثالثة. الثاني عقوبات ثنائية لكنها متعدّدة الأطراف من حيث تداعياتها. وهذا هو الصنف الذي تعمل به الولايات المتحدة وبقوة، على الأقل منذ الولاية الأولى للرئيس بيل كلينتون. وتأتي خطورة هذا الصنف من العقوبات من أنه يجعل قانونياً أطرافاً ثالثة، دولا وشركات، معنيّة بالأمر، وبالتالي عرضة هي الأخرى لعقوبات. وما هذا إلا بسط للصلاحية القانونية للتشريع الأميركي على دول العالم. وتستخدم هذه العقوبات الاقتصادية، ذات المضامين والمغازي الاستراتيجية، في حالاتٍ مختلفة. هناك ثلاث حالات في الوقت الراهن.
الأولى، العقوبات الشاملة التي تَقرر فرضها على إيران، بداية من الشهر المقبل، وهي عقوباتٌ ذات بعد متعدّد الأطراف، لأنها تستهدف أيضاً كل من يتعامل مع إيران، من دول وشركات. فبعد أن انسحبت أميركا من الاتفاق النووي قرّرت، عملياً ضرب النظام الإيراني، من خلال عقوباتٍ متشدّدةٍ تحظر التعاون معه، ما يضر بمصالح دول كثيرة، ويحول العالم إلى ملحقة قانونية للتراب الأميركي.
الثانية، تهديد أميركا دول "أوبك" بمعاقبتها إنْ لم تخفض سعر النفط. وهنا أيضاً تتخذ الإدارة الأميركية قراراً محلياً، وتسعى إلى فرضه على عدة دول، ساعيةً إلى سحب القرار الاستراتيجي منها، حماية لما تعتبرها مصلحة أميركية حيوية. والمفارقة أن أميركا (الليبرالية) التي طالما ناضلت من أجل أن يكون السوق (قانون العرض والطلب) وحده الحكم، تتدخّل اليوم في الاقتصاد الدولي، ساعية إلى تسقيف الأسعار وفقاً لمصلحتها على حساب مصالح الدول الأخرى.
الثالثة، قانون مكافحة خصوم أميركا من خلال العقوبات، وهو قانونٌ ينص على فرض عقوباتٍ على أي دولةٍ توقّع على صفقات تسلح مع شركات الصناعات العسكرية الروسية. وقد تسبّب هذا القانون في توتّر حاد بين تركيا وأميركا، عقب إعلان الأولى نيتها إبرام صفقة مع روسيا
للتزود بمنظومة إس - 400 المتطورة للدفاع الجوي والمضادّة للصواريخ. ولم تتردّد إدارة ترامب في الضغط العلني لإجبار تركيا على العدول عن قرارها، ولترهيب دول خليجية، حليفة للولايات المتحدة، أبدت، هي الأخرى، رغبتها في اقتناء المنظومة ذاتها. إذا كان واضحا أن أدوات الضغط الأميركي على دول الشرق الأوسط لمنعها من التزوّد بهذه المنظومة الدفاعية الروسية المتطوّرة، قوية ومتعدّدة، فإنها ليست كذلك عندما يتعلق الأمر بقوى مثل الهند والصين، فالأولى أعلنت، هي الأخرى، نيتها شراء هذه المنظومة العسكرية. وسيكون رد الفعل الأميركي (والأدوات الموظفة) امتحاناً استراتيجياً لقياس استعراض القوة الأميركية، ونهجها الأحادي وإمكانات موازنتها من قوى صاعدة، بخصوص قضيةٍ أساسية: استقلال القرارات الاستراتيجية للدول في مجال التسلح.
أما المدخل الثاني فلم تستخدمه أميركا في السابق إلا نادراً، وهو الانسحاب من بعض المنظمات والاتفاقيات الدولية، لكن إدارة ترامب تلجأ إليه بشكل ممنهج. أبرز انسحاب أميركي من منظمة دولية كان انسحابها من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) في ديسمبر/ كانون الأول 1984 بقرار من رئيسها آنذاك رونالد ريغان، ولم تعد إليها إلا في 2002 بقرار من بوش الابن. لكن علاقة أميركا مع "يونسكو" توتّرت مجدّداً عقب انضمام فلسطين، حيث قرّرت إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، وقف المساهمة المالية الأميركية في ميزانية المنظمة، ولم تراجع موقفها. وفي 2017، قررت إدارة خلفه، دونالد ترامب، الانسحاب منها. والسبب هو دائماً نفسه: تعتبر أميركا "يونسكو" معادية لإسرائيل.
ولم يتوقف عقاب الانسحاب عند هذه الأخيرة، فترامب تبنّاه سياسيةً ممنهجةً في حق كل من لا يسير على هواه، فقد سحب بلاده من الاتفاق الدولي حول النووي الإيراني، ومن الاتفاق الدولي للمناخ. ومنذ يومين، أعلنت الإدارة الأميركية الانسحاب من البرتوكول الاختياري المتعلق بتسوية النزاعات والملحق بمعاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961. كما أعلنت مراجعتها انضمامها لكل الاتفاقات والاتفاقيات الدولية التي قد تُحال، بموجبها، قضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية (لم توقع أميركا على معاهدة روما للمؤسسة لهذه المحكمة) للفصل فيها. وجاء القرار رداً على لجوء الفلسطينيين، في وقت سابق، وإيران أخيرا، إلى الجنائية الدولية.. توحي كل هذه القرارات الأميركية بأن ما هو آتٍ أسوأ بالنسبة لعمل الدول المتعدّدة الأطراف، والنظام الدولي عموماً.
يذكّرنا هذا التعارض بذلك الذي عرفه العالم خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي جورج بوش الابن، وخصوصا في العام 2002 ومطالع 2003، تحضيراً لغزو العراق واحتلاله. إلا أن الجديد في هذا التعارض الجديد القديم، هذه المرّة، أن الأمر لا يتعلق بجنوح قوي للولايات المتحدة إلى استخدام القوة العسكرية، متجاوزة مجلس الأمن، وإنما في الجنوح المتشدّد نحو فرض القوانين الأميركية على العالم، وتحويله إلى ملحق للتراب الأميركي، من حيث الصلاحية القانونية. وهو خرقٌ ما بعده خرقٌ لسيادة الدول المتعارف عليها، وأيضاً في تفكيك النظام الدولي الذي لعبت الولايات المتحدة دوراً ريادياً في تأسيسِه، وفي الحفاظ عليه.
طبعاً، محاولة أميركا فرض قوانينها خارج ترابها ليست جديدةً، فقد سبق مثلاً لإدارة كلينتون أن انتهجت الاستراتيجية ذاتها من خلال قوانين هولمس - بيرتن ودامتو- كينيدي عام 1996، حيث أضفت بعداً دولياً على قانونها الخاص بحظر تعاملات تفوق قيمتُها 40 مليون دولار مع كل من إيران وليبيا وكوبا. وقد تسببت تلك القوانين حينها، كما الحال مع القانون الحالي، في توتر بين أميركا وحلفائها الأوروبيين، خصوصا فرنسا (شركة توتال الفرنسية وقعت حينها على صفقة نفطية مع إيران).
لكن مديح العمل المتعدّد الأطراف يبقى ضعيفاً في وجه مديح العمل الأحادي لثلاثة أسباب
يعود هذا الفارق إلى عدّة عوامل، منها تشتّت صفوف القوى المنادية بالعمل المتعدّد الأطراف وتعارض مصالحها، وكذلك عدم قدرتها على موازنة القوة الأميركية، فضلاً عن شك الأوروبيين في نيات روسيا وتخوفهم من أن تستغل هذه الدعوة لفك الترابط الاستراتيجي بين ضفتي الأطلسي، ترابط أصبح مترهّلاً بسبب سياسة ترامب.
هناك مدخلان أساسيان توظفهما إدارة ترامب، لبسط الصلاحية القانونية للترسانة التشريعية الأميركية على بقية العالم. المدخل الأول سياسي - استراتيجي بامتياز، ولكن ينفذ بأدوات اقتصادية بالأساس: العقوبات الاقتصادية. وهي استراتيجيةٌ قديمةٌ ومتجذّرةٌ في السياسة الأميركية. وهناك صنفان من العقوبات: الأول، عقوبات ثنائية البعد تماماً، أي أنها تفرض من دولة على أخرى، من دون أن تكون لها تبعاتٌ على أطراف ثالثة. الثاني عقوبات ثنائية لكنها متعدّدة الأطراف من حيث تداعياتها. وهذا هو الصنف الذي تعمل به الولايات المتحدة وبقوة، على الأقل منذ الولاية الأولى للرئيس بيل كلينتون. وتأتي خطورة هذا الصنف من العقوبات من أنه يجعل قانونياً أطرافاً ثالثة، دولا وشركات، معنيّة بالأمر، وبالتالي عرضة هي الأخرى لعقوبات. وما هذا إلا بسط للصلاحية القانونية للتشريع الأميركي على دول العالم. وتستخدم هذه العقوبات الاقتصادية، ذات المضامين والمغازي الاستراتيجية، في حالاتٍ مختلفة. هناك ثلاث حالات في الوقت الراهن.
الأولى، العقوبات الشاملة التي تَقرر فرضها على إيران، بداية من الشهر المقبل، وهي عقوباتٌ ذات بعد متعدّد الأطراف، لأنها تستهدف أيضاً كل من يتعامل مع إيران، من دول وشركات. فبعد أن انسحبت أميركا من الاتفاق النووي قرّرت، عملياً ضرب النظام الإيراني، من خلال عقوباتٍ متشدّدةٍ تحظر التعاون معه، ما يضر بمصالح دول كثيرة، ويحول العالم إلى ملحقة قانونية للتراب الأميركي.
الثانية، تهديد أميركا دول "أوبك" بمعاقبتها إنْ لم تخفض سعر النفط. وهنا أيضاً تتخذ الإدارة الأميركية قراراً محلياً، وتسعى إلى فرضه على عدة دول، ساعيةً إلى سحب القرار الاستراتيجي منها، حماية لما تعتبرها مصلحة أميركية حيوية. والمفارقة أن أميركا (الليبرالية) التي طالما ناضلت من أجل أن يكون السوق (قانون العرض والطلب) وحده الحكم، تتدخّل اليوم في الاقتصاد الدولي، ساعية إلى تسقيف الأسعار وفقاً لمصلحتها على حساب مصالح الدول الأخرى.
الثالثة، قانون مكافحة خصوم أميركا من خلال العقوبات، وهو قانونٌ ينص على فرض عقوباتٍ على أي دولةٍ توقّع على صفقات تسلح مع شركات الصناعات العسكرية الروسية. وقد تسبّب هذا القانون في توتّر حاد بين تركيا وأميركا، عقب إعلان الأولى نيتها إبرام صفقة مع روسيا
أما المدخل الثاني فلم تستخدمه أميركا في السابق إلا نادراً، وهو الانسحاب من بعض المنظمات والاتفاقيات الدولية، لكن إدارة ترامب تلجأ إليه بشكل ممنهج. أبرز انسحاب أميركي من منظمة دولية كان انسحابها من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) في ديسمبر/ كانون الأول 1984 بقرار من رئيسها آنذاك رونالد ريغان، ولم تعد إليها إلا في 2002 بقرار من بوش الابن. لكن علاقة أميركا مع "يونسكو" توتّرت مجدّداً عقب انضمام فلسطين، حيث قرّرت إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، وقف المساهمة المالية الأميركية في ميزانية المنظمة، ولم تراجع موقفها. وفي 2017، قررت إدارة خلفه، دونالد ترامب، الانسحاب منها. والسبب هو دائماً نفسه: تعتبر أميركا "يونسكو" معادية لإسرائيل.
ولم يتوقف عقاب الانسحاب عند هذه الأخيرة، فترامب تبنّاه سياسيةً ممنهجةً في حق كل من لا يسير على هواه، فقد سحب بلاده من الاتفاق الدولي حول النووي الإيراني، ومن الاتفاق الدولي للمناخ. ومنذ يومين، أعلنت الإدارة الأميركية الانسحاب من البرتوكول الاختياري المتعلق بتسوية النزاعات والملحق بمعاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961. كما أعلنت مراجعتها انضمامها لكل الاتفاقات والاتفاقيات الدولية التي قد تُحال، بموجبها، قضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية (لم توقع أميركا على معاهدة روما للمؤسسة لهذه المحكمة) للفصل فيها. وجاء القرار رداً على لجوء الفلسطينيين، في وقت سابق، وإيران أخيرا، إلى الجنائية الدولية.. توحي كل هذه القرارات الأميركية بأن ما هو آتٍ أسوأ بالنسبة لعمل الدول المتعدّدة الأطراف، والنظام الدولي عموماً.