ما هي علاقة شركة فورد الأميركية بحركة موسيقى الجاز؟ وكيف أثر "الروك أند رول" في نشوء طبقة اجتماعية جديدة في منتصف القرن التاسع عشر؟ الإجابة عن هذه الأسئلة غير المتوقعة وعلى أمور أخرى متعلقة بنشأة الطبقة الوسطى المعاصرة، نجدها في كتاب إستيبان إيرنانديث (مدريد، 1965) نهاية الطبقة الوسطى.
ما يميز هذا الكتاب عن غيره، هو قدرة المؤلف على التفكير والتأمل والنقاش بأسلوب يختلف اختلافا جذريا عن أسلوب كتب علم الاجتماع التقليدية. فبالإضافة إلى المعلومات العلمية، بما فيها التاريخية والاقتصادية والسياسية، يتوقف إيرنانديث ملياً عند إسهامات حقول المعرفة المختلفة وكيف أثرت على موضوع الكتاب، وينسج لوحة مدهشة عبر تحليلاته للمؤثرات الثقافية للموسيقى (من Charlie Parker إلى Miley Cyrus) والسينما (Hitchock, Fritz Lang)، كما يغني نصه بتداعيات علم النفس (من الكلاسيكيين Freud وLacan إلى نظرية Mitchell وRenik) والفلسفة (Foucault Bourdieu وغيرهم). يطرح إيرنانديث رؤية خاصة حول القرن العشرين فهو يؤمن بأن النتاج الثقافي خلال ذلك القرن كان مرآة للمجتمع، فالإنتاج الثقافي فيه "يعكس بشكل دقيق مخاوف ورغبات وقناعات الناس الجماعية المشتركة أكثر من أي مجال اجتماعي آخر" (ص. 14).
وفي الحقيقة فإن هذا المزيج الفكري يعكس خلفية وتكوين المؤلف نفسه، فمع أن إيرنانديث تخرج من كلية الحقوق وعمل محاميا بضع سنوات، إلا أنه بدأ منذ أكثر من عشرين عاما العمل كمساعد صحافي مع عدة وسائل إعلامية ثقافية. وما تزال تنشر مقالاته في إصدارات وطنية بارزة مثل "Ruta 66"، وهي مجلة شهرية تعنى بموسيقى الروك، و"Culturas" والذي يُعتبر أروع ملحق ثقافي في إسبانيا، و"Texturas" وهي مجلة مختصة بالأدب.
إن هذا "المزج" بين ما هو علمي وما هو ثقافي هو الذي يمنعنا من تصنيف هذا الكتاب كمجرد "كتاب آخر" في قائمة كتب علم الاجتماع التي صدرت مؤخّرا، بل على العكس يعتبر "هدية" أخرى من الناشر لقراء يتوقون لقراءة موضوع اجتماعي-سياسي معقد، لكن بطريقة مبسطة ومسلية ومناسبة للجميع.
يحلل المؤلف تطور الطبقة الوسطى في الغرب، ليستنتج أن للطبقة الوسطى حاليا مشكلة كبيرة تتمثل في الخوف. وفي تفسيره لهذه الظاهرة يقول إيرنانديث إنّ هذا الخوف ليس ناتجا عن تقلبات وأزمات المجتمع المعاصر، بل هو ناتج عن عدم صلاحية مبادئ الطبقة الوسطى للاستمرار في اللعبة. وفي نقاشه لأسباب ذلك يقول إن الطبقة الوسطى منذ نشأتها في بداية القرن الماضي حتى أيامنا هذه، كانت تظن أن مستقبلها، ومستقبل الأجيال الآتية مطمئن، ما دامت تؤدي واجبها في سياق النظام الديمقراطي. كما كانت تعتقد أنّ الإنسان سيضمن نجاحه في الحياة إذا اجتهد في تكوينه الدراسي وفي تنفيذ مهنته واحترم قوانين المجتمع. وبدأ أفراد هذه الطبقة يعتمدون على طرق التفكير والقيم الموروثة من آبائهم وعلى فاعلية المؤسسات الحكومية لحل أي "خطأ" اجتماعي، وهذا يعني تحوّل الطبقة الوسطى إلى طبقة اتكالية متقاعسة لا رغبة ولا حاجة لها إلى التعرض للخطر، ولا للبحث عن تجارب جديدة قد تحفز تطورها الإيديولوجي.
لكن منذ بداية القرن الحادي والعشرين عرف العالم مجموعة من التغيرات السريعة، التي أدت بالطبقة الوسطى إلى الإحساس بأن طرق التفكير والقيم الموروثة لا تصلح لتدبيرها ضمن هذا السياق الجديد، وخصوصا على الصعيد المهني. فالعالم اليوم يتمحور حول الاتصالات والتحالفات والشبكات البشرية وحول الإبداع التقني والمهني، وفي هذا السياق، أصبح إتقان المادة أمر غير كاف للنجاح في المجتمع.
ويجزم إيرنانديث أن العالم في حركة دائمة تتطلب إستراتيجيات مرتبطة بالإبداع والتعرض إلى الخطر، وبقدرة التحول الذاتي والانتقال الجغرافي. كما يؤكد أن حل الطبقة الوسطى يكمن في الاقتناع بأن مبادئها المحافظة والمتوخية الحذر والتي كانت ترمز إلى الثبات والاستقرار قبل خمسين سنة، أصبحت اليوم مبادئ أكثر خطورة اجتماعيا، وفشل هذه الفئة أمر لا مفر منه إلا إذا حققت التأقلم العقلي الضروري مع هذا السياق الجديد.
و"نهاية الطبقة الوسطى"، على عكس ما يظن الكثير، قد لا تتعلق بأسباب اقتصادية فحسب، وإنما بأسباب إيديولوجية. ورغم العنوان الذي اختاره إيرنانديث لكتابه، فلعل المؤلف لا يهدف إلى نهاية الطبقة الوسطى بل يدعو إلى محاولة البدء من جديد. وهنا لنا أن نتساءل في ما إن كان فوز "اليسار الراديكالي" في اليونان هو الحلقة الأولى من البداية التي يأملها إيرنانديث ويدعو لها في كتابه؟
*كاتبة إسبانية
ما يميز هذا الكتاب عن غيره، هو قدرة المؤلف على التفكير والتأمل والنقاش بأسلوب يختلف اختلافا جذريا عن أسلوب كتب علم الاجتماع التقليدية. فبالإضافة إلى المعلومات العلمية، بما فيها التاريخية والاقتصادية والسياسية، يتوقف إيرنانديث ملياً عند إسهامات حقول المعرفة المختلفة وكيف أثرت على موضوع الكتاب، وينسج لوحة مدهشة عبر تحليلاته للمؤثرات الثقافية للموسيقى (من Charlie Parker إلى Miley Cyrus) والسينما (Hitchock, Fritz Lang)، كما يغني نصه بتداعيات علم النفس (من الكلاسيكيين Freud وLacan إلى نظرية Mitchell وRenik) والفلسفة (Foucault Bourdieu وغيرهم). يطرح إيرنانديث رؤية خاصة حول القرن العشرين فهو يؤمن بأن النتاج الثقافي خلال ذلك القرن كان مرآة للمجتمع، فالإنتاج الثقافي فيه "يعكس بشكل دقيق مخاوف ورغبات وقناعات الناس الجماعية المشتركة أكثر من أي مجال اجتماعي آخر" (ص. 14).
وفي الحقيقة فإن هذا المزيج الفكري يعكس خلفية وتكوين المؤلف نفسه، فمع أن إيرنانديث تخرج من كلية الحقوق وعمل محاميا بضع سنوات، إلا أنه بدأ منذ أكثر من عشرين عاما العمل كمساعد صحافي مع عدة وسائل إعلامية ثقافية. وما تزال تنشر مقالاته في إصدارات وطنية بارزة مثل "Ruta 66"، وهي مجلة شهرية تعنى بموسيقى الروك، و"Culturas" والذي يُعتبر أروع ملحق ثقافي في إسبانيا، و"Texturas" وهي مجلة مختصة بالأدب.
إن هذا "المزج" بين ما هو علمي وما هو ثقافي هو الذي يمنعنا من تصنيف هذا الكتاب كمجرد "كتاب آخر" في قائمة كتب علم الاجتماع التي صدرت مؤخّرا، بل على العكس يعتبر "هدية" أخرى من الناشر لقراء يتوقون لقراءة موضوع اجتماعي-سياسي معقد، لكن بطريقة مبسطة ومسلية ومناسبة للجميع.
يحلل المؤلف تطور الطبقة الوسطى في الغرب، ليستنتج أن للطبقة الوسطى حاليا مشكلة كبيرة تتمثل في الخوف. وفي تفسيره لهذه الظاهرة يقول إيرنانديث إنّ هذا الخوف ليس ناتجا عن تقلبات وأزمات المجتمع المعاصر، بل هو ناتج عن عدم صلاحية مبادئ الطبقة الوسطى للاستمرار في اللعبة. وفي نقاشه لأسباب ذلك يقول إن الطبقة الوسطى منذ نشأتها في بداية القرن الماضي حتى أيامنا هذه، كانت تظن أن مستقبلها، ومستقبل الأجيال الآتية مطمئن، ما دامت تؤدي واجبها في سياق النظام الديمقراطي. كما كانت تعتقد أنّ الإنسان سيضمن نجاحه في الحياة إذا اجتهد في تكوينه الدراسي وفي تنفيذ مهنته واحترم قوانين المجتمع. وبدأ أفراد هذه الطبقة يعتمدون على طرق التفكير والقيم الموروثة من آبائهم وعلى فاعلية المؤسسات الحكومية لحل أي "خطأ" اجتماعي، وهذا يعني تحوّل الطبقة الوسطى إلى طبقة اتكالية متقاعسة لا رغبة ولا حاجة لها إلى التعرض للخطر، ولا للبحث عن تجارب جديدة قد تحفز تطورها الإيديولوجي.
لكن منذ بداية القرن الحادي والعشرين عرف العالم مجموعة من التغيرات السريعة، التي أدت بالطبقة الوسطى إلى الإحساس بأن طرق التفكير والقيم الموروثة لا تصلح لتدبيرها ضمن هذا السياق الجديد، وخصوصا على الصعيد المهني. فالعالم اليوم يتمحور حول الاتصالات والتحالفات والشبكات البشرية وحول الإبداع التقني والمهني، وفي هذا السياق، أصبح إتقان المادة أمر غير كاف للنجاح في المجتمع.
ويجزم إيرنانديث أن العالم في حركة دائمة تتطلب إستراتيجيات مرتبطة بالإبداع والتعرض إلى الخطر، وبقدرة التحول الذاتي والانتقال الجغرافي. كما يؤكد أن حل الطبقة الوسطى يكمن في الاقتناع بأن مبادئها المحافظة والمتوخية الحذر والتي كانت ترمز إلى الثبات والاستقرار قبل خمسين سنة، أصبحت اليوم مبادئ أكثر خطورة اجتماعيا، وفشل هذه الفئة أمر لا مفر منه إلا إذا حققت التأقلم العقلي الضروري مع هذا السياق الجديد.
و"نهاية الطبقة الوسطى"، على عكس ما يظن الكثير، قد لا تتعلق بأسباب اقتصادية فحسب، وإنما بأسباب إيديولوجية. ورغم العنوان الذي اختاره إيرنانديث لكتابه، فلعل المؤلف لا يهدف إلى نهاية الطبقة الوسطى بل يدعو إلى محاولة البدء من جديد. وهنا لنا أن نتساءل في ما إن كان فوز "اليسار الراديكالي" في اليونان هو الحلقة الأولى من البداية التي يأملها إيرنانديث ويدعو لها في كتابه؟
*كاتبة إسبانية