تفرقة اقتصادية معمقة في النشاط الثقافي التونسي

20 ديسمبر 2015
غياب التمويل لدعم الفرق الفنية (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
+ الخط -
أصبحت الأنشطة الثقافيّة في تونس، فكريّة كانت أو فنيّة، حكراً على فئة دون أخرى من التونسيّين، بفعل عوامل متداخلة من الخيارات الحكوميّة والظروف والتراكمات الاقتصاديّة والاجتماعية.
"0.78 % هي نسبة الموازنة المخصصة لوزارة الثقافة لسنة 2016، بقيمة إجمالية لا تتجاوز 95 مليون دولار في بلد يخوض صراعاً مريراً ضدّ الإرهاب وثقافة الموت". هكذا استهلّ الخبير محمد ياسين السوسي حديثة حول أزمة الثقافة في تونس وغياب العدالة في توزيع النشاطات الثقافيّة. ويقول: "تغيب العدالة حتّى على مستوى تقسيم هذه الموازنة الضئيلة، حيث تحتكر الأجور ونفقات التصرّف 70% من هذه الموازنة، فيما يخصّص الباقي للتنمية الثقافيّة وتطوير القطاع".
أما على صعيد "احتكار الثقافة" فيشير الخبير السوسي إلى أنّ النشاط الثقافي في تونس يعاني من معضلتين؛ تتمثّل الأولى في المركزيّة المفرطة، حيث تُرصد 80% من أموال الدعم الحكوميّة للمهرجانات في المدن الكبرى على غرار العاصمة و"بنزرت" و"الحمامات" و"سوسة". كما تحتكر العاصمة أغلب التظاهرات الثقافيّة الكبرى التي تنعكس على النشاط الاقتصاديّ في المدينة ككلّ بما تخلقه من حركة وتنشيط للتجارة والخدمات. ويتابع: "أما الجهات الداخليّة التي تعاني من التهميش الاقتصاديّ، فيتمّ حرمانها من هذه الفرص الموسميّة التي قد تساعدها ظرفيّاً للخروج من حالة الركود".
ويضيف: "هذا بالإضافة إلى الفرق في البنى التحتيّة، حيث تركّز المسارح ودور السينما والنوادي الثقافيّة في المدن الكبرى والأحياء الراقية وسط العاصمة وضواحيها".
ويؤكد السوسي أن سياسة التمييز الثقافيّ تتجلى من خلال ارتفاع تكلفة ممارسة أو متابعة النشاطات الثقافيّة في تونس ككلّ. ليستطرد محدثنا قائلاً إنّ المهرجانات والنوادي الثقافيّة والترفيهيّة والفنيّة لم تعد في متناول جميع الفئات نتيجة ارتفاع تكلفة التذاكر للحفلات والنشاطات الثقافيّة، إذ لا تقلّ تذاكر مهرجان دوليّ كمهرجان قرطاج أو الحمامات عن 20 دولاراً لتصل إلى 70 دولاراً في بعض العروض ذات الصبغة الدولية، وهو مبلغ لا يتوفّر لدى فئة واسعة من التونسيّين الذّين تدهورت قدرتهم الشرائيّة خلال السنوات القليلة الماضية نتيجة غلاء المعيشة والتضخّم.


مرتزقة السلطة
وفي سياق متصل، يقول عبد العزيز بن خليفة، وهو رئيس فرقة موسيقية "إنّ هذه الفضاءات الثقافية في تونس تنقسم إلى صنفين، فضاءات عموميّة في حالة مزرية خصوصاً في الجهات الداخليّة، حيث تغيب عنها أبسط المقوّمات والتجهيزات الضروريّة، ولا تتجاوز ميزانيات دور الشباب والثقافة في بعض المدن الداخليّة على غرار "سيدي بوزيد" و"القصرين" 7000 دولار، وهي مخصّصات تكفي بالكاد لدفع أجور العمالة وبعض أعمال الصيانة وفواتير الكهرباء والماء". ويتابع " أما الفئة الثانية فهي نواد ثقافية خاصّة تتركّز في الأحياء الفخمة من العاصمة التونسيّة والمدن الكبرى، حيث تبلغ تكاليف التسجيل وارتياد مختلف العروض ما قيمته 100 دولار شهرياً". ويؤكد أن باقي الأحياء الشعبيّة والفقيرة تحرم من حقّها في الترفيه والثقافة، بل وتتعرّض بعض المشاريع الفرديّة الصغيرة التي تسعى إلى كسر هذا الاحتكار الثقافي إلى التضييق عبر إخضاعها لشتّى الممارسات البيروقراطية ما يدفع أصحابها في نهاية المطاف إلى إقفالها. ويعطي بن خليفة مثالاً على ذلك، ويقول:" في حيّ التضامن في تونس، والذّي يعدّ أحد أكبر أحياء تونس كثافة سكانية لا يحتوي حتى هذه الساعة على دار للثقافة أو فضاء للعروض والأنشطة الثقافيّة، ما يظهر حجم التفاوت بين المناطق، وغياب المساواة".

حيتان الثقافة
من جهة أخرى، يشير بن خليفة إلى أنّ التفقير الثقافي لمناطق وفئات دون أخرى يرجع في أحد أسبابه الرئيسيّة إلى ما يمكن تسميته بحيتان الساحة الثقافيّة، أي أولئك المثقّفون الذّي ينتجون نصوصاً رديئة ويتملّقون السلطة كي يحصلوا على النصيب الأوفر من دعم وزارة الثقافة، في حين يغفلون عن عمد كل ما قد يعكّر صفو النظام على غرار مواضيع تتعلّق بالفقر والجوع والبطالة، ليتحوّلوا إلى مرتزقة يحرمون الطاقات الشابّة والأعمال الجديّة والراقية من الوصول إلى الجمهور.
ويضيف بن خليفة قائلاً: "إن بعض الأعمال الفنيّة، والمسرحيّة خصوصاً، في الفرق الصغيرة داخل الجهات المهمّشة في البلاد توأد قبل عرضها على الجمهور نتيجة رفض وزارة الثقافة تمويلها، بل إنّ بعض الجمعيات ينتهي بها الأمر إلى حلّ نفسها لانعدام الموارد ومصادر التمويل سواء العموميّة منها أو الخاصّة، نظراً لغياب المؤسّسات الاقتصاديّة الكبيرة في المحافظات الداخليّة للبلاد القادرة على تقديم الدعم للأنشطة الثقافيّة المحليّة، أو نتيجة تهميش سلطة الإشراف التي تخصّص لنحو 10% من الأنشطة والأعمال عشرات الآلاف من الدولارات، في حين تستثني مئات الجمعات والمشاريع من الدعم والتي لا يملك أصحابها علاقات داخل الوزارة ولا ينتمون إلى تلك الفئة من مرتزقة القطاع الثقافة".
يبدو أن الفتاة "هبة بوعلي"، من مدينة جندوبة التي لا تقلّ بؤساً عن نظيراتها من مدن الشريط الغربيّ للبلاد، والتي كانت مثالاً آخر على سياسة التفقير الثقافيّ والإقصاء للمناطق والفئات المهمّشة اقتصادياً واجتماعياً، حيث اضطرت هذه الفتاة إلى الانقطاع عن نشاطها في أحد الفرق المسرحيّة المحليّة نظراً لانعدام الإمكانات الماديّة لتوفير أساتذة مختصّين أو فضاءات مناسبة، كما أنّ الفرقة اضطرّت لتسليم المكان الذّي اتخذته مقرّا لها لعدم قدرتها على دفع الأجور والخدمات، بالإضافة إلى عدم تمكنها من شراء النصوص والديكورات اللازمة. وتشير بو علي إلى أنّها ستنتظر حتّى تنهي تعليمها الثانوي لتنتقل إلى العاصمة وتواصل تعليمها الجامعي، وهناك ستحاول إحياء حلمها باعتلاء خشبة المسرح من جديد نظراً لتوافر الفرق والفضاءات. فتكون هذه الأخيرة ضحيّة جديدة لمركزيّة شلّت النشاط الثقافيّ في تونس وحوّلّت الثقافة من حقّ دستوريّ لكلّ المواطنين إلى نشاط انتقائيّ تحتكره فئة دون السواد الأعظم من الناس.

اقرأ أيضاً:تونسيّون يعيشون تفاوتاً اجتماعيّاً بين أحيائهم السكنيّة 
المساهمون