21 يوليو 2021
تغيرات في ألمانيا.. تتجاوز مطبات تاريخ "العار والذنب والتوبة"
تحت قشرة الجدل السياسي في ألمانيا، ثمة جدل آخر، فلسفي وثقافي عن "ألمانيا الجديدة". جدل يأخذ طابعاً قيمياً وهوياتياً لأمةٍ ظلت، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، تعيش ما لم تعشه أمة أوروبية أخرى، في محاولة مراجعة الثقافة والهوية. وعلى الرغم من ذلك، لم تملك أمة أخرى جرأة ما امتلكته ألمانيا في مراجعة ثقافتها وماضيها، بعد 12 سنة من "العصر النازي". على سبيل المثال، لا تزال بلجيكا ترفض أن تعترف بجرائمها المقترفة بحق أرواح ملايين البشر في مستعمراتها السابقة في الكونغو، فرنسا كذلك لا تعترف بما اقترفته من جرائم في الجزائر، وغيرها. والاعتراف المقصود هنا ليس سوى "مراجعة جادة وعميقة"، مع ما يحمله ذلك من مسؤوليةٍ تحتاج جسارةً تغرف من ثقافةٍ أبعد من عقد ونصف العقد من الانقلاب النازي، في فصل سيئ من فصول تاريخ أمةٍ أعرق من مجرد ربطه بأدولف هتلر. والقصة هنا ليست مجرد شذرات تصدر عن مثقف وسياسي، فمقابل بلجيكا وفرنسا، حيث لم تشهد مدينة واحدة من مدنهما نصباً تذكارياً واحداً لضحايا استعمارهما الأفريقي وغير الأفريقي، عاشت ألمانيا على وقع ثقافة أخرى، يركز معظمها على مراجعات وبحث عن الذات بالعلاقة مع الماضي.
تخصص ألمانيا، على سبيل المثال، يوماً وطنياً لضحايا النازية في 27 يناير/ كانون الثاني من كل عام، وفيها نصب تذكارية لكل ضحايا النازية، وليس فقط لليهود. في مقابل ذلك، لا المنتصرون في كتابة التاريخ ولا المنهزمون في محوره أقدموا على شيء مشابه من المراجعة. ومبكراً، اختار مؤرخو ألمانيا وفلاسفتها وساستها ومثقفوها، منذ انتهاء الحرب وبداية ورشة الإعمار، التموضع في مقدمة المراجعين لماض أليم. صحيحٌ أن التركيز انصب على "الهولوكوست"، في إعادة صياغة العلاقة بالتاريخ الماضوي، بدءاً من مناهج المدارس وانتهاءً بالخطاب السياسي اليومي، وعجن التفكير بحقيقة ألمانيا قبل تلك الحقبة، لكنها انطلاقة اختزلت القطع مع الفكر والحكم النازي، بحثاً عن هوية جمعية أخرى، من ماض آخر غير حقبة اثني عشر عاماً.
فقط مقارنة بين اتجاهات ألمانيا إلى ثقافة مراجعة ورفض النازية ورفض بريطانيا الاعتذار عن جريمتها في فلسطين، من وعد بلفور إلى تسليم البلد لعصاباتٍ صهيونية، يمكن أن يوضح
عربياً أي فرق حدث منذ فترة ما بعد الحرب... وللإشارة فحسب، فيما الكراهية بحق ألمان اليوم منتشرة في بولندا والدنمارك وغيرهما من دول، بما فيها روسيا، لما اقترفه النازيون قبل أكثر من 70 سنة، لم يراجع هؤلاء شيئاً مما ارتكب أيضاً من جرائم بحق مجموعات وشعوب أخرى. القائمة طويلة في ما أنتجه التعصب القومي من أثمان، تُرى بعض نتائجها اليوم كثقافة معيشة يتأقلم الناس معها بشكل عادي جداً. من ترحيل وتطهير عرقي ونهب أرض وتغيير الديموغرافيا إلى تحميل "الغرباء" مسؤولية عثرات "نقاء الأوطان".
تحديات أخلاقية...
وعلى الرغم من ذلك، منذ سقوط جدار برلين في 1989 واتحاد ألمانيا "الشيوعية" مع الغربية، في "ألمانيا الاتحادية" في 1990، بدأت مرحلة أخرى في مواجهة الماضي، وسيلةً أخلاقيةً وسياسيةً شملت مواجهة معاداة السامية وفوبيا المهاجرين. ولكن أيضاً ليس ثمة وهم أن ألمانيا الشرقية لم تشهد مستوى المراجعة الثقافية والتاريخية نفسه، وليس من أوهام بأن تفوق القسم الشرقي من البلاد في رفض اللاجئين يرتبط فقط بفكرة تحميل المهاجرين مسؤولية كل عثرات الأمة، كما تفعل دول أخرى، عاشت تحت النمط "الشيوعي" الحاكم نفسه، من المجر إلى تشيكيا وسلوفاكيا وبولندا، وبدرجة ما في صفوف مجموعات قومية عنفية روسية.
أخيراً، برز حزب البديل لأجل ألمانيا (تأسس في 2013) محطماً مقولة السياسي البافاري الراحل، فرانز جوزيف ستراوش، الذي تزعم حزب يمين الوسط، الاتحاد الاجتماعي المسيحي، من أنه "إلى يميننا لا يوجد يمين، بل الجدار فقط". وقد جاء "البديل" ليقدم نفسه خلف جدار شتراوس اليميني، مطالباً بمراجعة أخرى ومختلفة لفهم الألمان تاريخهم. تبدو فكرة اليمين الجديد في ألمانيا، والتي يمثلها منذ سنوات قليلة "البديل"، بشأن مراجعة الألمان تاريخهم، مختصرة في أن "الذاكرة الألمانية لا يمكن حصرها في 12 سنة من حكم هتلر والنازيين، ونحتاج لمراجعة وطنية إيجابية للنهج الرسمي لهذه القصة". وفي شهر يونيو/ حزيران الماضي، ذهب زعيم حزب البديل، ألكسندر غاولاند، يخبر الألمان صراحة عن فكرة معارضته اختزال التاريخ في 12 سنة بالقول "فترة هتلر والنازية لم تكونا سوى مخلفات طائر في أكثر من ألف سنة من تاريخ ألمانيا الغني بالانتصارات".
ما يقلق الساسة التقليديين في ألمانيا، وخارجها، ليس تصويب "البديل" على اللاجئين والمهاجرين وسياسات المستشارة أنجيلا ميركل منذ 2015 في الخصوص. ولا شكل "معاداة السامية" الجديد الذي أظهره بحث ودراسة مشتركان لمركز بيو للأبحاث وجامعة مونستر، للتأكيد على نتائج دراسة جامعة ريغنسبيرغ الألمانية لعام 2017، أن "معاداة السامية" تنتشر بين مجموعات اللاجئين بواقع 50%. القلق الأكبر، بحسب ما يراه المختصون بالشأن الألماني السياسي والثقافي، لدى أحزاب يمين الوسط التقليدية، ومنها الحزب الشقيق للمسيحي الديمقراطي الذي تتزعمه ميركل، حزب "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" بزعامة وزير الداخلية هورست سيهوفر، أن "البديل" يطرح فكرةً تذهب نحو التخلي عن عبادة "ثقافة الشعور بالذنب" التي صبغت التاريخ الحديث منذ ما بعد الحرب.
انتصار أفكار "البديل" في الشارع الألماني يقلق "الاجتماعي المسيحي"، لأنها أفكار قد تجعل من الأخير حزباً مهمّشاً، وليس كما تفاخر به سترواش يوماً. تطورات مثل هذه تحدث في أجزاء أوروبية أخرى، حيث بات اليمين المتشدد فيها يتفوّق على اليمين التقليدي.
وفي واقع ألمانيا اليوم سجالات مثيرة لمن يتابعها، بشأن الهوية والمستقبل، وصلاتٍ بالماضي
وسياسات اللجوء والهجرة. منهجية جديدة يمكن ملاحظتها في ربط حزب البديل لأجل ألمانيا فهم الألمان ذاتهم بسياسة اللجوء، وهي منهجيةٌ تحمل بعضاً من مخاطر زيادة جذب الشارع نحو مزيد من التشدّد والتعصب القومي، لدعم سياسات لجوء صارمة وقادمة، وهو ما التقطه سيهوفر من ناحية، ويستثمر فيه تنافساً مع البديل بقوة لتجميع أوراق قوة لانتخابات مقبلة.
لا يغيب عن ذلك كله تنازع التاريخ وتأثيره في واقع ألمانيا اليوم. قصة فهم الألمان ذاتهم بدأت مع الزعيم الاجتماعي الديمقراطي، فيلي برانت، الذي أصبح مستشاراً في 1969. قرأ برانت تاريخ ألمانيا النازية وهزيمتها في 1945 بمثابة تحرير لألمانيا، وأنه "مستشار لألمانيا المحرّرة". واجه برانت مقاومةً في ألمانيا، خصوصاً بين ساسة اليمين وبعض المؤرخين، ورفض ذلك المعسكر فكرة جعل الألمان "أسرى أبديين للشعور بالذنب والتوبة".
وفيما يتعلق بمسألة "الذنب والتوبة"، بقي معسكر النازيين الجدد، تحت قشرة موجة "المراجعة الأخلاقية الألمانية"، يتخذها سلاحاً في استمرار العداء لليهود، وخصوصاً فيما يتعلق بأدبياته التي ترفض دفع التعويضات لدولة الاحتلال الإسرائيلي، قبل أن يوجه سهامه إلى مجتمع المهاجرين، ويستخدم العنف بحق الأتراك، حيث قتل منهم على الأقل 12 شخصاً في بداية التسعينات بعمليات قنص.
على تلك الخلفية برز نزاع تأريخي، عن كتابة التاريخ والذاكرة الجمعية ودراستهما في ألمانيا، لكنه في مجمله ظل مسيساً، وإن بقي بعض توافق على أن كتابة التاريخ خضعت لتفسيرات الأجيال، وإعادة طرح الأسئلة بصيغ راهنة.
راجت في الثمانينات في ألمانيا تأزماتٌ بين المؤرخين، فقد رأى المؤرخ إرنست نولته أن "الهولوكوست ليس عملاً فريداً من نوعه كما يعرض، أو جُعل"، وهو رأى النازية رداً على خطر وجودي بحق ألمانيا. وفي موجة الجدال تلك، برز انقسام معسكرين في صفوف المؤرخين. أيدت الأغلبية الفيلسوف يورغن هابرماس، بكل ما مثله من أفكار نقدية وإيمان بفلسفة سلفه الألماني الذي واجه الجناح اليميني التقليدي، في نزاع حول "تفسير ماضي ألمانيا"، وفي أية وجهة ينبغي استخدامه. وقد أراد الجناح اليميني البورجوازي تفسيراً ينحى باتجاه "ثقافة تذكارية" طريقة للتنوير القومي، من دون جعل الألمان أسرى جرائم الماضي المرتكبة بأيدي نظم سياسية حكمت البلد فترة النازية. في المقابل، كان معسكر يورغن هابرماس يرى استحضار ذاكرة الهولوكست رهناً مدفوعاً من ألمانيا الجديدة، وارتباطها بالغرب والليبرالية الديمقراطية. وبقي الهولوكست، في السجالات هذه، علامة فارقة وواجبة الاستذكار لتقرير العلاقة الأخلاقية بين الألمان والماضي النازي، ورمزية لارتباط غير منفصم بالغرب الديمقراطي.
بتفكّك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، بعيد سقوط جدار برلين، برزت فرصة الاطلاع على المصادر التاريخية السرية. ووضع المؤرخ الانكليزي من جامعة ييل، تيموثي سنايدر، الهولوكوست (المحرقة) في سياق أوسع في مؤلفه "بلوودلاندس" (أوروبا بين هتلر وستالين)، والذي تحول فيلماً سينمائياً لاحقاً، فقد جعلها في سياق التصادم بين الشيوعية والنازية في شرق أوروبا، حيث قام النظامان السياسيان بجرائم بشعة وإبادة في القرن العشرين. وعلى الرغم من أنه حصل على جوائز عديدة، إلا أنه مؤرخ نقدي تعرّض لسيل من الانتقادات، بسبب مسّه مقدّس "ذاكرة المحرقة" وقراءتها باعتبارها حالة نسبية، وليست الحدث الأفظع في تاريخ البشرية، من دون التفاتٍ إلى فظائع أخرى من الفترة الزمنية نفسها، كما ورد في مقدمة هذه المطالعة أعلاه.
ربطاً بذلك، فإن ثقافة "الذاكرة الألمانية"، على الرغم من كل المتغيرات الحاصلة في محيطها؛ ومن بينها قوانين بولندا بشأن علاقة البولنديين بالمحرقة، ووصول شعبويين في النمسا إلى الحكم، وفاشيين إلى مستويات قريبة من الحكم في إيطاليا، وانتشار تعصب قومي عند الجيران، أبقت الألمان على السطح ملتزمين بشعور الذنب والتوبة. ولكن ولد، تحت القشرة، جيل جديد، في الفلسفة والفنون والآداب والسياسة والتأريخ... والمجتمع، يحرك بركة تلك المشاعر.
على المستوى السياسي، ثمّة تفسيرات إذاً بشأن دوافع ذهاب يمين الوسط التقليدي، في الاتحاد الاجتماعي المسيحي، إلى إظهار لغة متشددة تجاه سياسة الهجرة، وعموم سياسات ألمانيا. فهورست سيهوفر ليس سياسياً مبتدئاً في بافاريا، إنه يحمل قيماً مسيحية في قراءته بلده، وهو وزير داخلية اتحادي، يدرك مدى تحديات بلده مع غياب الاندماج. على سبيل المثال، تعاني ألمانيا من مشكلة خطيرة ومكتومة مع انتشار السلفية في مدن عديدة، منها هامبورغ. وحين تناقش مؤيدي هورست يسألونك باعتبارك صحافياً عربياً: هل يمكن أن يقبل أن يتنازل حزب إسلامي في دولة عربية عن مبادئه، لأن جالية ألمانية جاءت تعيش بينهم، وتحاول فرض شروط وثقافة حملتها وترفض ثقافة الأغلبية؟.. يبدو ذلك بالنسبة لبعضهم سؤالاً سطحياً، لكنه بالنسبة لمثل هذا الحزب قيمي وثقافي ووجودي، أبعد من مسألة اللجوء وأزماتها، وهو حزب يبني شعبيته على فكرة أنه "بيضة القبان في ميزان الاستقرار السياسي في ألمانيا".
خلاصة
أنتج التغير الذي شهدته ألمانيا، في تراكم تدريجي متفاوت السرعة، اليوم إلى يمين الوسط يميناً آخر، حزب البديل لأجل ألمانيا؛ وهي ظواهر تجدها أيضاً حول أوروبا، حيث ينافس التشدد يمين الوسط. الآن، الصراع على الألمان، بين معسكر تقليدي والبديل، يراه بعضهم صراعاً يدفع المسيحيين الاجتماعيين، وغيرهم، نحو تبني تشدّد أكبر. فلو حصل "البديل" على مزيد من التأييد الشعبي، بما يحمله من صراع قيمي، لا يستبعد المؤرخون والمهتمون بشأن ألمانيا أن يسحب ذلك نحو تشدد يمين الوسط، وقضية الحدود واللجوء ليست سوى واحدة من أوجه هذا النزاع القيمي الداخلي في البلد.
يقوم "البديل" من ناحية، في مسعاه، إلى تغيير فهم الألمان أنفسهم، دفعهم نحو التخلص من "الشعور بالعار" الماضوي النازي. وفي هذا الاتجاه، سيكون صعباً أن تجد الديمقراطيين والاجتماعيين المسيحيين يلحقون بهم، لكن ذلك قد يدفع الأخيرين نحو قراءة أخرى لمفهوم الهوية وفهم الذات الألمانية، وذلك سيحتاج دعم مؤرخين من معسكر اليمين لدعم مسار آخر، من دون التخلي عن الليبرالية الديمقراطية منطلقاً. وسيبقى السؤال المزمن: هل تستطيع كل تلك المتغيرات منع رؤية الماضي في مرآة الحاضر؟.. ربما الجواب في النمسا وفي إيطاليا، وغيرهما حيث يتقدم الشعبويون والمتعصبون قومياً. وعلى الرغم من ذلك، ربما لألمانيا شروطها الخاصة والمختلفة (من ماض يسبق النازية وتفاعلات ما بعد حقبتها الثقافية والسياسية والاجتماعية)، فثمة كثير مما يختمر في هذا البلد العريق.
تخصص ألمانيا، على سبيل المثال، يوماً وطنياً لضحايا النازية في 27 يناير/ كانون الثاني من كل عام، وفيها نصب تذكارية لكل ضحايا النازية، وليس فقط لليهود. في مقابل ذلك، لا المنتصرون في كتابة التاريخ ولا المنهزمون في محوره أقدموا على شيء مشابه من المراجعة. ومبكراً، اختار مؤرخو ألمانيا وفلاسفتها وساستها ومثقفوها، منذ انتهاء الحرب وبداية ورشة الإعمار، التموضع في مقدمة المراجعين لماض أليم. صحيحٌ أن التركيز انصب على "الهولوكوست"، في إعادة صياغة العلاقة بالتاريخ الماضوي، بدءاً من مناهج المدارس وانتهاءً بالخطاب السياسي اليومي، وعجن التفكير بحقيقة ألمانيا قبل تلك الحقبة، لكنها انطلاقة اختزلت القطع مع الفكر والحكم النازي، بحثاً عن هوية جمعية أخرى، من ماض آخر غير حقبة اثني عشر عاماً.
فقط مقارنة بين اتجاهات ألمانيا إلى ثقافة مراجعة ورفض النازية ورفض بريطانيا الاعتذار عن جريمتها في فلسطين، من وعد بلفور إلى تسليم البلد لعصاباتٍ صهيونية، يمكن أن يوضح
تحديات أخلاقية...
وعلى الرغم من ذلك، منذ سقوط جدار برلين في 1989 واتحاد ألمانيا "الشيوعية" مع الغربية، في "ألمانيا الاتحادية" في 1990، بدأت مرحلة أخرى في مواجهة الماضي، وسيلةً أخلاقيةً وسياسيةً شملت مواجهة معاداة السامية وفوبيا المهاجرين. ولكن أيضاً ليس ثمة وهم أن ألمانيا الشرقية لم تشهد مستوى المراجعة الثقافية والتاريخية نفسه، وليس من أوهام بأن تفوق القسم الشرقي من البلاد في رفض اللاجئين يرتبط فقط بفكرة تحميل المهاجرين مسؤولية كل عثرات الأمة، كما تفعل دول أخرى، عاشت تحت النمط "الشيوعي" الحاكم نفسه، من المجر إلى تشيكيا وسلوفاكيا وبولندا، وبدرجة ما في صفوف مجموعات قومية عنفية روسية.
أخيراً، برز حزب البديل لأجل ألمانيا (تأسس في 2013) محطماً مقولة السياسي البافاري الراحل، فرانز جوزيف ستراوش، الذي تزعم حزب يمين الوسط، الاتحاد الاجتماعي المسيحي، من أنه "إلى يميننا لا يوجد يمين، بل الجدار فقط". وقد جاء "البديل" ليقدم نفسه خلف جدار شتراوس اليميني، مطالباً بمراجعة أخرى ومختلفة لفهم الألمان تاريخهم. تبدو فكرة اليمين الجديد في ألمانيا، والتي يمثلها منذ سنوات قليلة "البديل"، بشأن مراجعة الألمان تاريخهم، مختصرة في أن "الذاكرة الألمانية لا يمكن حصرها في 12 سنة من حكم هتلر والنازيين، ونحتاج لمراجعة وطنية إيجابية للنهج الرسمي لهذه القصة". وفي شهر يونيو/ حزيران الماضي، ذهب زعيم حزب البديل، ألكسندر غاولاند، يخبر الألمان صراحة عن فكرة معارضته اختزال التاريخ في 12 سنة بالقول "فترة هتلر والنازية لم تكونا سوى مخلفات طائر في أكثر من ألف سنة من تاريخ ألمانيا الغني بالانتصارات".
ما يقلق الساسة التقليديين في ألمانيا، وخارجها، ليس تصويب "البديل" على اللاجئين والمهاجرين وسياسات المستشارة أنجيلا ميركل منذ 2015 في الخصوص. ولا شكل "معاداة السامية" الجديد الذي أظهره بحث ودراسة مشتركان لمركز بيو للأبحاث وجامعة مونستر، للتأكيد على نتائج دراسة جامعة ريغنسبيرغ الألمانية لعام 2017، أن "معاداة السامية" تنتشر بين مجموعات اللاجئين بواقع 50%. القلق الأكبر، بحسب ما يراه المختصون بالشأن الألماني السياسي والثقافي، لدى أحزاب يمين الوسط التقليدية، ومنها الحزب الشقيق للمسيحي الديمقراطي الذي تتزعمه ميركل، حزب "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" بزعامة وزير الداخلية هورست سيهوفر، أن "البديل" يطرح فكرةً تذهب نحو التخلي عن عبادة "ثقافة الشعور بالذنب" التي صبغت التاريخ الحديث منذ ما بعد الحرب.
انتصار أفكار "البديل" في الشارع الألماني يقلق "الاجتماعي المسيحي"، لأنها أفكار قد تجعل من الأخير حزباً مهمّشاً، وليس كما تفاخر به سترواش يوماً. تطورات مثل هذه تحدث في أجزاء أوروبية أخرى، حيث بات اليمين المتشدد فيها يتفوّق على اليمين التقليدي.
وفي واقع ألمانيا اليوم سجالات مثيرة لمن يتابعها، بشأن الهوية والمستقبل، وصلاتٍ بالماضي
لا يغيب عن ذلك كله تنازع التاريخ وتأثيره في واقع ألمانيا اليوم. قصة فهم الألمان ذاتهم بدأت مع الزعيم الاجتماعي الديمقراطي، فيلي برانت، الذي أصبح مستشاراً في 1969. قرأ برانت تاريخ ألمانيا النازية وهزيمتها في 1945 بمثابة تحرير لألمانيا، وأنه "مستشار لألمانيا المحرّرة". واجه برانت مقاومةً في ألمانيا، خصوصاً بين ساسة اليمين وبعض المؤرخين، ورفض ذلك المعسكر فكرة جعل الألمان "أسرى أبديين للشعور بالذنب والتوبة".
وفيما يتعلق بمسألة "الذنب والتوبة"، بقي معسكر النازيين الجدد، تحت قشرة موجة "المراجعة الأخلاقية الألمانية"، يتخذها سلاحاً في استمرار العداء لليهود، وخصوصاً فيما يتعلق بأدبياته التي ترفض دفع التعويضات لدولة الاحتلال الإسرائيلي، قبل أن يوجه سهامه إلى مجتمع المهاجرين، ويستخدم العنف بحق الأتراك، حيث قتل منهم على الأقل 12 شخصاً في بداية التسعينات بعمليات قنص.
على تلك الخلفية برز نزاع تأريخي، عن كتابة التاريخ والذاكرة الجمعية ودراستهما في ألمانيا، لكنه في مجمله ظل مسيساً، وإن بقي بعض توافق على أن كتابة التاريخ خضعت لتفسيرات الأجيال، وإعادة طرح الأسئلة بصيغ راهنة.
راجت في الثمانينات في ألمانيا تأزماتٌ بين المؤرخين، فقد رأى المؤرخ إرنست نولته أن "الهولوكوست ليس عملاً فريداً من نوعه كما يعرض، أو جُعل"، وهو رأى النازية رداً على خطر وجودي بحق ألمانيا. وفي موجة الجدال تلك، برز انقسام معسكرين في صفوف المؤرخين. أيدت الأغلبية الفيلسوف يورغن هابرماس، بكل ما مثله من أفكار نقدية وإيمان بفلسفة سلفه الألماني الذي واجه الجناح اليميني التقليدي، في نزاع حول "تفسير ماضي ألمانيا"، وفي أية وجهة ينبغي استخدامه. وقد أراد الجناح اليميني البورجوازي تفسيراً ينحى باتجاه "ثقافة تذكارية" طريقة للتنوير القومي، من دون جعل الألمان أسرى جرائم الماضي المرتكبة بأيدي نظم سياسية حكمت البلد فترة النازية. في المقابل، كان معسكر يورغن هابرماس يرى استحضار ذاكرة الهولوكست رهناً مدفوعاً من ألمانيا الجديدة، وارتباطها بالغرب والليبرالية الديمقراطية. وبقي الهولوكست، في السجالات هذه، علامة فارقة وواجبة الاستذكار لتقرير العلاقة الأخلاقية بين الألمان والماضي النازي، ورمزية لارتباط غير منفصم بالغرب الديمقراطي.
بتفكّك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، بعيد سقوط جدار برلين، برزت فرصة الاطلاع على المصادر التاريخية السرية. ووضع المؤرخ الانكليزي من جامعة ييل، تيموثي سنايدر، الهولوكوست (المحرقة) في سياق أوسع في مؤلفه "بلوودلاندس" (أوروبا بين هتلر وستالين)، والذي تحول فيلماً سينمائياً لاحقاً، فقد جعلها في سياق التصادم بين الشيوعية والنازية في شرق أوروبا، حيث قام النظامان السياسيان بجرائم بشعة وإبادة في القرن العشرين. وعلى الرغم من أنه حصل على جوائز عديدة، إلا أنه مؤرخ نقدي تعرّض لسيل من الانتقادات، بسبب مسّه مقدّس "ذاكرة المحرقة" وقراءتها باعتبارها حالة نسبية، وليست الحدث الأفظع في تاريخ البشرية، من دون التفاتٍ إلى فظائع أخرى من الفترة الزمنية نفسها، كما ورد في مقدمة هذه المطالعة أعلاه.
ربطاً بذلك، فإن ثقافة "الذاكرة الألمانية"، على الرغم من كل المتغيرات الحاصلة في محيطها؛ ومن بينها قوانين بولندا بشأن علاقة البولنديين بالمحرقة، ووصول شعبويين في النمسا إلى الحكم، وفاشيين إلى مستويات قريبة من الحكم في إيطاليا، وانتشار تعصب قومي عند الجيران، أبقت الألمان على السطح ملتزمين بشعور الذنب والتوبة. ولكن ولد، تحت القشرة، جيل جديد، في الفلسفة والفنون والآداب والسياسة والتأريخ... والمجتمع، يحرك بركة تلك المشاعر.
على المستوى السياسي، ثمّة تفسيرات إذاً بشأن دوافع ذهاب يمين الوسط التقليدي، في الاتحاد الاجتماعي المسيحي، إلى إظهار لغة متشددة تجاه سياسة الهجرة، وعموم سياسات ألمانيا. فهورست سيهوفر ليس سياسياً مبتدئاً في بافاريا، إنه يحمل قيماً مسيحية في قراءته بلده، وهو وزير داخلية اتحادي، يدرك مدى تحديات بلده مع غياب الاندماج. على سبيل المثال، تعاني ألمانيا من مشكلة خطيرة ومكتومة مع انتشار السلفية في مدن عديدة، منها هامبورغ. وحين تناقش مؤيدي هورست يسألونك باعتبارك صحافياً عربياً: هل يمكن أن يقبل أن يتنازل حزب إسلامي في دولة عربية عن مبادئه، لأن جالية ألمانية جاءت تعيش بينهم، وتحاول فرض شروط وثقافة حملتها وترفض ثقافة الأغلبية؟.. يبدو ذلك بالنسبة لبعضهم سؤالاً سطحياً، لكنه بالنسبة لمثل هذا الحزب قيمي وثقافي ووجودي، أبعد من مسألة اللجوء وأزماتها، وهو حزب يبني شعبيته على فكرة أنه "بيضة القبان في ميزان الاستقرار السياسي في ألمانيا".
خلاصة
أنتج التغير الذي شهدته ألمانيا، في تراكم تدريجي متفاوت السرعة، اليوم إلى يمين الوسط يميناً آخر، حزب البديل لأجل ألمانيا؛ وهي ظواهر تجدها أيضاً حول أوروبا، حيث ينافس التشدد يمين الوسط. الآن، الصراع على الألمان، بين معسكر تقليدي والبديل، يراه بعضهم صراعاً يدفع المسيحيين الاجتماعيين، وغيرهم، نحو تبني تشدّد أكبر. فلو حصل "البديل" على مزيد من التأييد الشعبي، بما يحمله من صراع قيمي، لا يستبعد المؤرخون والمهتمون بشأن ألمانيا أن يسحب ذلك نحو تشدد يمين الوسط، وقضية الحدود واللجوء ليست سوى واحدة من أوجه هذا النزاع القيمي الداخلي في البلد.
يقوم "البديل" من ناحية، في مسعاه، إلى تغيير فهم الألمان أنفسهم، دفعهم نحو التخلص من "الشعور بالعار" الماضوي النازي. وفي هذا الاتجاه، سيكون صعباً أن تجد الديمقراطيين والاجتماعيين المسيحيين يلحقون بهم، لكن ذلك قد يدفع الأخيرين نحو قراءة أخرى لمفهوم الهوية وفهم الذات الألمانية، وذلك سيحتاج دعم مؤرخين من معسكر اليمين لدعم مسار آخر، من دون التخلي عن الليبرالية الديمقراطية منطلقاً. وسيبقى السؤال المزمن: هل تستطيع كل تلك المتغيرات منع رؤية الماضي في مرآة الحاضر؟.. ربما الجواب في النمسا وفي إيطاليا، وغيرهما حيث يتقدم الشعبويون والمتعصبون قومياً. وعلى الرغم من ذلك، ربما لألمانيا شروطها الخاصة والمختلفة (من ماض يسبق النازية وتفاعلات ما بعد حقبتها الثقافية والسياسية والاجتماعية)، فثمة كثير مما يختمر في هذا البلد العريق.