تعويم المواطن العربي

03 مارس 2018
+ الخط -
من شدة الاهتزاز النفسي والاجتماعي الذي يعانيه المواطن العربي، أصبح يسأل "فيسبوك" والتطبيقات المجاورة له، عن نفسيته وشخصيته، والوظائف التي يستحقها، وعن مستقبله ومواصفات الزوجة التي تصلح له، وذلك كله لأن المواطن العربي، الذي لم يعد يثق في أحد، ولم يعد له من يرشده، أو بلغة الواقع العربي، تم تعويمه.
لم تعد لنا منارات ثقافية أو علمية أو سياسية. لذلك تجدنا في المحطات المصيرية نختار الجواب السهل، إما بالامتناع أو الخيانة، وغالبا التحالف مع القوي ضد الضعيف، نعتنق ثقافة الموت طريقا ثالثا، بدل الإقبال على مواجهة الزمان وحلفائه. حتى طلاب الجامعات أصبحوا يبادلون أساتذتهم المال والفراش وبطاقات التعارف، في مقابل علم يفترض أن الولوج إليه مجاني.
أما المجتهد المعدوم الموارد، فسيعاني الويلات مع ذلك الطالب الذي يحمل حقيبة الدكتور، قبل أن يصل إلى الدكتور نفسه، الاهتزاز تحصيل حاصل، لتكالب البشر والحجر والطبيعة والآلة علينا.
يأتينا أكبر لص، ويحدثنا عن الشرف والأمانة، ونصطف لتحيته ونصفق له، إعجابا بأسلوبه الناجح في الحياة، يهدر ثرواتنا في كماليات تافهة، ونحن مندهشون من شخصيته، يوقف بيعنا وشراءنا، ونحن ننشئ الصفحات والمواقع الخاصة حبا له، وإعجابا بأزواجه وأبنائه، بل حتى حراسه الشخصيون أصبح لهم معجبون ومغرمون، يسلطون الأضواء على كل المغامرات التي ينفذونها، من أجل إزاحة المواطن من الطرق المفروشة.
تحول مثقفون بيننا إلى عملاء لكل الجهات ولكل الخدمات، الوطنية والدولية، السياسية والمالية، الدينية والدنيوية، تحاليلهم حيل نخبوية مدفوعة الأجر مسبقا، مقدماتهم معروفة وخاتمتهم مكشوفة، أصبحنا نعرف نهاية البرامج الإعلامية، وأهدافها، من اسم الضيوف والمحللين والخبراء.
المثقف العربي هو الكائن الوحيد الذي يدافع عن أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، عن الديني وعن العلماني، ينتصر للقطاع العام والقطاع الخاص، يفتي بالمطلق وبالنسبي، يتهم البريء ويبرئ المتهم، يفكر لدفتر الشيكات وعلمه يهدي، أولا وأخيرا، إلى سراط الحاكم.
في النظام التعليمي الطبيعي، كان الفاشل علميا يذهب ليساعد أباه في الورشة أو الحقل، ومن لديه صعوبات في التطور يغير بوصلته نحو التكوين المهني أو الرياضة أو الفنون التي تعتمد على الموهبة أكثر من الدراسة. لكن اليوم أصبح لكل واحد من هؤلاء جمعيات ومنظمات، ومراكز للدراسات الاستراتيجية الخاصة بكل شيء، ومعاهد لتكوين العظماء وإعداد القادة وخدمة السادة، إلى درجة أن بعض الدعاة السلفيين انتبهوا إلى هذه الموضة المربحة، وركبوا موجتها، وظهرت شخصية الداعية الكوتش. نحن الآن أمام مدارس عائمة ومتحركة، هدفها إعداد مواطن يرى نفسه من خارج نفسه، ويقيمها انطلاقا من فتاوى علماء السلطان وآراء الخبراء الجدد، الكل يفتي، وعلى الكل أن يؤمن.
وهل تم تعويم المرأة أكثر مثل الرجل؟ ألا ترون، حين تموت النساء في الجبال البعيدة بسبب البرد والإهمال، أو تهان على موائد المحسنين طلبا لوجبة غداء، توجد في سلة المهملات الخاصة ببعض المسؤولين، وجبات تفوقها غدائيا وماليا، يخرج علينا من يدعو لتحرير جسد المرأة مع الاحتفاظ بكرامتها في نفس المرتبة، يطالبون بتحرير الجسد المعافى فقط، لأن الجسد العليل، ينعم بالمساواة مع جسد الرجل الملقى في المستشفيات العمومية.
ألا ترى أن نساء العرب الخادمات في البيوت، يعشن فترات تنتمي لزمن العبودية المتوحشة للرومان، والأدهى أن جحيمهن، يكون على أيدي النساء والرجال.
البرلماني يصوت ضد قانون حماية الخادمات، لأنه يرى كل يوم كيف تعذب زوجته الخادمة، وزوجة القاضي تمارس هواية الكي على جسد الخادمة، قبل الذهاب إلى نادي الفروسية، والإعلامية المرموقة، تقيم الحفلات الخيرية لجمع التبرعات للأطفال اليتامى، ثم تعود إلى البيت لجلد الخادمة اليتيمة، علما أن عاملة النظافة من سيدات المجتمع، تقدم خدماتها لأكبر جمعية نسائية في البلاد، تلك الجمعية التي ترأسها دكتورة، ومجلسها الإداري يضم صيدلية وطبيبة ومحامية وسيدات الأعمال، تحت الرئاسة الشرفية لإحدى الأميرات، تتقاضى دولارين في اليوم، في مقابل الاعتناء بمقر الجمعية وجدران الحضانة، وإعداد الطعام لأكثر من 30 طفلا ينتمون إلى أسر ميسورة!
يتفوق الحاكم العربي على ستالين، لأنه يمسك الرجل بيد، وينزع ريش المرأة باليد الأخرى، إنه الزعيم الوحيد الذي نجح في تعويم المواطن والمواطنة في أبهى صور للمساواة ين الجنسين.
A49D13BF-46C8-47D1-BFB0-75C4A8908F5B
A49D13BF-46C8-47D1-BFB0-75C4A8908F5B
توفيق سلمون (المغرب)
توفيق سلمون (المغرب)