تحاول المليشيات وقوات المخلوع السيطرة على موقع جبل العروس (في أعلى قمة جبل صبر جنوب المدينة)، والذي يطل على كامل المدينة، في محاولة منها لإحكام حصارها الخانق على المحافظة، والذي يترافق مع قصف لا يتوقف على الأحياء السكنية، وهو ما يعرض السكان للموت في أية لحظة، وخصوصاً بعد انعدام القدرة على علاج الحالات الخطرة ولا سيما بعد النقص الحاد في أنابيب الأوكسجين في المستشفيات نتيجة الحصار. أما أهالي المحافظة فيعتمدون على الطرق الجبلية الشاقة لمحاولة تسريب الحياة ومستلزماتها إلى مدينتهم، تأكيداً منهم على رفض الاستسلام لتحالف الانقلاب والسياسة الانتقامية التي اختار انتهاجها ضد المدينة.
حصار خانق
قبل أشهر، انسحبت مليشيات الحوثيين وقوات المخلوع من منطقة "مشرعة وحدنان"، إحدى المديريات التابعة لجبل صبر، بفعل مقاومة الأهالي وبدون أي دعم يذكر. ومنذ ذلك الحين، تحولت هذه المنطقة المحررة إلى المنفذ الوحيد لإدخال الدواء والغذاء إلى مدينة تعز المحاصرة منذ أشهر، والتي تعاني نقصاً حاداً في مختلف مستلزمات الحياة ويحاصر سكانها الجوع والموت في آن معاً.
وغالباً ما تنقل المواد الضرورية لاستمرار الحياة على ظهور الحمير، نظراً لوعورة الطريق التي تمر عبر سلسلة جبلية ممتدة في الأجزاء الجنوبية للمدينة، فيما تستميت المليشيات الآن للسيطرة على الجبل واغلاق الطُرق البديلة التي تتسرب منها الحياة إلى المدينة.
ويعتقد تحالف الانقلاب أن تعز سترضخ إذا ما تم إحكام الحصار عليها، أو هذا هو الأمل الوحيد المتبقي لدى صالح والحوثيين لإخضاعها، وخصوصاً أنهم لن يفرطوا في أية فرصة لـ"تأديب" المدينة التي أرهقت وعاندت صالح طويلاً.
اقرأ أيضاً: تعز ومضايا... نموذجان لسلاح تجويعي يحترفه حلفاء إيران
معارك وغارات
على الرغم من الغارات التي ينفذها طيران التحالف العربي في المدينة، إلا أن المواجهات على الأرض تبقى الأهم. تتركز المعارك في مناطق جبل صبر، وتدور بين سكان معظم مناطق المحافظة، الذين أصبحوا يُعرفون بـ"مقاتلي المقاومة الشعبية" المساندين لشرعية الرئيس اليمني، عبدربه منصور هادي، وبين مسلحي مليشيات الحوثيين وقوات المخلوع. وعلى الرغم من التفوق في التسليح النوعي والخبرة القتالية لدى مسلحي الحوثيين وصالح، إلا أنهم فشلوا في السيطرة أو في إحراز تقدم في هذه المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، والتي لا يمكن فصلها عن موقع تعز الجغرافي والتاريخي والسياسي.
موقع استراتيجي
تقع المحافظة في الجزء الجنوبي من اليمن في محاذاة الجهة الغربية للبلاد أيضاً، مما منحها موقعاً استراتيجياً يربط بين المحافظات الجنوبية والشمالية. وبينما تبعد عن العاصمة اليمنية صنعاء 256 كيلومتراً، يفصل تعز عن مدينة عدن، التي يقيم فيها هادي حاليا،ً حوالى 167 كيلومتراً. لكن هذه المسافة، في الحسابات العسكرية، تصبح أقصر، ولا سيما مع بقاء تهديد المسلحين الحوثيين وقوات المخلوع، إذ يعسكرون على مشارف محافظة لحج المحاذية لتعز من الجهة الجنوبية.
وقد جعل هذا الموقع الاستراتيجي محافظة تعز، منذ بداية الانقلاب، في قلب الأحداث. ففي أواخر مارس/آذار من العام الماضي، أراد تحالف الحوثيين وصالح أن يجعل من تعز محطة عبور نحو عدن، التي كان هادي قد وصل اليها آتياً من صنعاء بعدما تمكن من الإفلات من الإقامة الجبرية التي كانت مفروضة عليه.
كانت اللمسات الأخيرة لإتمام الانقلاب الذي بدأه الحوثيون على مراحل منذ دخولهم صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول من عام 2014 قد شارفت على الانتهاء. حينها راقبت المدن التي تقع في الطريق إلى عدن الأرتال العسكرية لمليشيات الحوثيين وقوات الرئيس المخلوع وهي تمر نحو عدن، فيما كانت شوارع تعز تكتظ بحشود الجماهير والتظاهرات المناهضة للانقلاب والتنديد باجتياح المليشيات محافظات الجنوب. ومع وصول أول دفعة من قوات الأمن الخاصة الموالية لتحالف الانقلاب إلى أحد المداخل الرئيسية من الجهة الشمالية لتعز، رابط المتظاهرون أمام معسكر القوات الخاصة (الذي يقع في منطقة جولة القصر على تل مستوٍ مطل على أنحاء عدّة من المدينة). أراد المتظاهرون المقاومة السلمية لكن الجنود أمطروهم بالرصاص ليسقط يومها عشرات القتلى والجرحى.
تكررت الاعتداءات الدموية في منطقة التربة (مدينة صغيرة تقع في الأجزاء الجنوبية لتعز، تتبعها إدارياً لكنها تبعد عنها وتعد حالياً معقلاً لمعسكرات الجيش الوطني). يومها سقط شبان رفضوا مرور الأرتال العسكرية لتحالف الحوثي وصالح نحو عدن من الجهة الجنوبية، عبر منطقة هيجة العبد، التي ترتبط بمناطق طور الباحة شمال محافظة لحج الجنوبية، ليؤسس توالي الأحداث وسقوط الضحايا لشكل آخر من المقاومة، إذ فرض السلاح نفسه في مدينة لطالما عُرفت بميل سكانها إلى المدنيّة والنضال السلمي.
وعلى الرغم من أن إمكانيات التسلح في تعز كانت شحيحة، إن لم تكن منعدمة مقارنة ببقية المحافظات الشمالية، تشكلت مجموعات مسلحة صغيرة إلى جانب كتيبة عسكرية من اللواء35 مدرع الموالي للشرعية، وأعلنت دعمها لهادي. هذه النواة بدأت تخوض حرب شوارع وتدحرجت المعارك في المحافظة. وفي غضون أسابيع كانت القوات العسكرية، قبل أن تتبعها المقاومة الشعبية في تعز، تخوض معارك وصفها البعض بـ"حرب كرامة" مع أكثر من 10 ألوية، فيما تستمر المواجهات إلى اليوم ليتأخر الحسم في المدينة لأسباب عدة وتستمر معاناة سكانها التي تبدو بالنسبة لأبناء المدينة امتداداً لمعاناة متواصلة منذ عقود في المحافظة، التي تشتهر بأنها لم تعرف لغة المهادنة يوماً، وخصوصاً في مواجهة صالح منذ تواجده في الحكم وحتى اليوم، حيث يواصل سكانها التصدي لمحاولات كسرها. كما أنه على امتداد أكثر من 70 عاماً، أدت محافظة تعز دوراً مهماً في تاريخ الدولة اليمنية، ولا سيما أنها كانت شاهدة على الكثير من الأحداث التاريخية، بحكم موقعها الجيوسياسي الاستراتيجي.
اقرأ أيضاً: اليمنيون بلغات العالم: ارفعوا الحصار عن تعز
مدينة الثورة
عرفت المحافظة في السنوات الأخيرة بمدينة الثورة، فمنها انطلقت الشرارة الأولى في 11 فبراير/شباط من عام 2011، لتصبح الرمز الملهم لباقي اليمنيين الذين تداعوا للتظاهر والاعتصام في باقي المدن والمحافظات، قبل أن تنجح الثورة الشبابية في الإطاحة بصالح من على كرسي السلطة، وإن باتفاق سياسي، وتطيح بمساعيه لتوريث الحكم. ولاحقاً عادت تعز لتتصدر المحافظات التي خرجت للتظاهر ضد انقلاب الحوثيين والمخلوع. أسباب يرى مراقبون، أنها كافية من وجهة نظر المخلوع لتستدعي الحقد عليها والانتقام الذي تتعرض له اليوم.
وكان صالح في أيامه الأخيرة، في أثناء الثورة، قد حاول اللعب بالورقة الطائفية مصرحاً أمام عدد من رجال الدين المنتمين للطائفة الزيدية بأنه "إذا لم نقف صفاً واحداً، فسوف أكون آخر حاكم زيدي". وقبلها كان صالح وإعلامه قد حرضوا ضد أبناء تعز، واصفين إياهم بـ"البراغلة" (وهي كلمة تعني الاحتقار المتعمد)، وفي ذات الوقت تلويح صريح باستخدام المناطقية والطائفية ضدهم.
لكن على الرغم من ذلك، يؤكد محللون أنه مهما حاول صالح ومعه الحوثيون جعل الصراع طائفياً، بهدف الاستقواء واستثمار كل التراكم السلطوي لدى الزيدية السياسية وقبائل شمال الشمال، فإن تعز بنضالاتها المتراكمة ومخزونها السياسي التاريخي قادرة على إفشال هذا التوجه.
وتعتبر تعز المحافظة المدنية الأكثر تخففاً من الثقافات الماضوية. كما أنّ أبناء تعز الأقل انجذاباً للسير خلف المشاريع العصبوية، نظراً لارتفاع نسبة التعليم في بلد يعاني من ارتفاع نسبة الأمية فيه، فضلاً عن أن سكانها ينتشرون في كل المحافظات اليمنية ويعملون في مختلف المهن.
وكانت عوامل تاريخية عدة قد ساعدتهم على الاندماج الفعال، وخصوصاً أن تعز تعرف بأنها محافظة كثيفة السكان وقليلة الموارد، إذ يشكل سكانها ما نسبته 12.2 في المائة من سكان اليمن، بما يقارب ثلاثة ملايين نسمة وفقاً لآخر عملية إحصاء رسمية في 2004، وهو الأمر الذي دعا سكانها في الماضي إلى تفضيل الهجرة قبل الثورة إلى عدن المستعمرة وإلى الحبشة، وبعد الثورة إلى الخليج.
أدوار متعددة
ولطالما عرفت تعز بأنها مدرسة النضال اليمني ومنجم الثورات. وكانت للمحافظة إلى جانب أبنائها مجموعة من الأدوار البطولية في ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962، التي وضعت نهاية للحكم الإمامي ليتأسس على أنقاضه ما عُرف حينها بالجمهورية العربية اليمنية. شاركت تعز على نحو فاعل في جميع المراحل التحضيرية للثورة والتي سبقت اندلاعها بسنوات. انخرط مثقفو وتجار المدينة، إلى جانب القادة العسكريين فيها، على قلتهم، في جميع الأنشطة التي مهّدت للثورة، والتي كانت تظهر من وقت لآخر على شكل انتفاضات فاشلة.
لم تنكسر الإمامة بسرعة لأنها بعد سنوات قليلة حشدت القبائل وفرضت طوقاً وحاصرت العاصمة صنعاء، على مدى سبعين يوماً سُمي بـ "حصار السبعين يوماً". وبدلاً من قيام من أصبحوا في الحكم بواجبهم والدفاع عن العاصمة (أغلبهم من عهد الإمامة الذين ارتدوا ثوب الجمهورية) فإنهم فروا، ليضطلع صغار الضباط بمهمة كسر الحصار عن صنعاء. وهؤلاء كانوا جيل الثورة الآتي من تعز ومن محافظات أخرى. بعد النجاح غير المتوقع في فك حصار صنعاء وإفشال أول محاولة للغدر بالثورة، عاد كل الهاربين وكانت أول مهمة يقومون بها هي الغدر مجدداً، حيث قتل وسحل الضباط الشباب الذين دافعوا عن صنعاء. وقد سحل هؤلاء في الشوارع على وقع الزوامل (أهازيج شعبية في الشمال اليمني غالباً ما يكون لها دورها في التحشيد الحربي أو التعبير عن الانتصار). وكان من بينهم عبد الرقيب عبد الوهاب قائد ملحمة السبعين يوماً لفك الحصار عن مدينة صنعاء. ولاحقاً تعرض أبناء المدينة، خلال سنوات حكم صالح، وعلى غرار سكان العديد من المحافظات، إلى الإقصاء عن الالتحاق بالمؤسسة العسكرية.
أما بالنسبة للجنوب، فقد كانت تعز غرفة عمليات لمواجهة الاستعمار البريطاني. وعندما اندلعت الثورة في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1963 كانت للكثير من أبناء تعز أدوار بطولية في انتصار الثورة، وأصبحوا يشاركون في إدارة الدولة الجديدة. وكان لهذه المشاركة الفاعلة على الضفتين دور بارز في إعادة تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990.
اقرأ أيضاً: قناصة الحوثيين يقيّدون الحركة اليومية في تعز