19 أكتوبر 2019
تعزيز التسلطية العربية
لا تؤدي مراحل الانتقال الديمقراطي، بغض النظر عن حجمها، بالضرورة إلى الديمقراطية، فهي قد تؤدي إلى تعزيز التسلطية. وهذا ما يشهده العالم العربي منذ تسعينيات القرن الماضي. فالمرحلة الانتقالية، القصيرة جداً، التي شهدتها الجزائر بين نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، تبعها صراع أهلي مسلح، عقدا تقريباً، والنتيجة النهائية تعزيز التسلطية في الجزائر إلى درجة تبنّي نموذج الرئاسة على مدى الحياة، مع أن الجزائر كانت من أوائل البلدان العربية التي تنظم فيها انتخاباتٌ رئاسيةٌ تعدّدية (في 1996). أما الانتقال، الوجيز جداً هو الآخر، في المغرب، الذي شهد أول حكومة تناوبٍ في المنطقة العربية، فلم يرسّخ الانتقال الديمقراطي في البلاد، بل تبعه تعزيزٌ للتسلطية. أما الإصلاحات المعلن عنها في سياق أحداث الربيع العربي، خوفاً من عدواها، فبقيت حبراً على ورق، لأنها كانت مجرّد انحناء إستراتيجي للنظامين، الجزائري والمغربي، ريثما تهدأ الأمور، فعوض الإصلاحات الموعودة، استفاق الجزائريون على سير النظام نحو تكريس الرئاسة على مدى الحياة. أما في المغرب، فعلى الرغم من حركة 20 فبراير، وتولي حكومة إسلامية الحكم، بقيت السلطة الفعلية في البلاد خارج يد الأخيرة، والنتيجة هي نفسها؛ تعزيز التسلطية القائمة. والمرحلة الثالثة لسلسلة التعزيزات هذه تتمثل في المعالجة الأمنية والقضائية في البلدين لحركات الاحتجاج الاجتماعية، كما حدث مع حراك الريف في المغرب.
لا مبالغة في القول إن هامش الحرية، الضيق أصلاً، في الدول العربية كلها، ازداد تقلصاً في السنوات الأخيرة، في سياقٍ حلّ فيه الخطاب الأمني محلّ الخطاب الديمقراطي، وتعزّزت فيه الشرعية الدينية و/ أو الثورية للأنظمة، بشرعية فتّاكة للحريات الأساسية، وهي الشرعية
الأمنية بدعوى مكافحة الإرهاب، فالأخير يقدّم خدمة جليلة للأنظمة القائمة، بتمكينها من تجديد نفسها، وتحديث آلتها القمعية بمبرّرات ومسوغات لم تكن تحلم بها.
قادت كل المراحل الانتقالية، سواء الأولى (نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات) أو التي تلت، (أو أوحت بذلك) الربيع العربي إلى النتيجة نفسها: تعزيز التسلطية، وبشكل مثير للانتباه، كما هو الحال في مصر والجزائر والمغرب، وإن كانت بمستوياتٍ مختلفة. وحتى الدول التسلطية التي لم يسبق أن عرفت الانتقال على الإطلاق تتعزّز فيها التسلطية، ويزداد فيها القمع، كما حال السعودية. أما الدول العربية التي شهدت انتفاضات ديمقراطية في إطار أحداث الربيع العربي، فقد تفرّقت مساراتها واختلفت، فإذا كانت تونس، صاحبة المبادرة والسباقة في الانتفاضة، خرجت بعض الشيء سالمةً من مخالب تعزيز التسلطية، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للدول الأخرى. وإن كانت تونس تعيش مفارقة أساسية: الانتفاضة الديمقراطية جاءت بقوة محافظة (الإسلاميين) وبالحرس القديم إلى السلطة. كل هذا الحراك من أجل هذا؟
أما مصر فهي النموذج المناقض تماماً للنموذج التونسي، لأن العسكر لم ينجحوا فقط في إعادة نظام حسني مبارك التسلطي الذي كان قائماً قبل الانتفاضة التي أطاحته، بل عزّزوا التسلطية بشكل شديد. فتسلطية نظام مبارك تبدو اليوم "مرنة"، مقارنة بالتسلطية المحكمة التي أقاموها منذ إطاحتهم الرئيس المنتخب محمد مرسي.
فيما تحولت ليبيا وسورية واليمن أشلاء ممزقة. كان في الأولى تغيير النظام محلي التنفيذ، لكنه أجنبي الأداء، نظراً للتدخل العسكري الغربي في البلاد، بغطاء وتمويل بل ومشاركة من أنظمة عربية، انتهزت الفرصة لتصفية حسابات سياسية مع نظام معمر القذافي. ولسان حالها: نحن مع الحرية للشعب لكن ضد الحرية لشعوبنا! وهنا مكمن التناقضات العربية، فكل الدول العربية غير ديمقراطية، وبالتالي لا يمكنها ادّعاء دعم الديمقراطية، فاقد الشيء لا يعطيه. أما سورية التي شهدت عسكرة مبكرة للانتفاضة، على نمط ليبيا، فلم تكن في البداية مسرحاً للتدخل الخارجي المباشر، لكن مع تطوّر حربها الأهلية صارت ميدانياً لنوعين من التدخل. تدخل عبر أطراف ثالثة من دعم فصائل المعارضة المسلحة عسكرياً ومالياً. وتنخرط أطراف عربية
ودولية في هذه العملية، بفضل التدخلات بالنيابة، أي عبر أطراف ثالثة. وتدخل مباشر هو من فعل بعض القوى الغربية وروسيا. والجميع إنما يفعل ذلك رسمياً في سبيل محاربة الإرهاب، ومساعدة الشعب السوري! هكذا أصبحت سورية بؤرة توتر، وتدخل إقليمي ودولي، يتجاوز تماماً الأطراف العربية المتدخلة، والتي ليس لها ثقلٌ يذكر، بل أصبحت تقوم بحرب بالنيابة لصالح قوى غربية. على عكس سورية التي فلتت من القبضة العربية المحلية، فإن اليمن يقبع تحت رحمة التدخل العربي. ويبدو أنه ذهب أيضاً ضحية مقايضات: غطاء عربي، بل ودعم لمواقف القوى الغربية في سورية، في مواجهة الموقفين، الروسي والإيراني، في مقابل إطلاق يد الدول العربية المتدخلة في اليمن، بدعوى احتواء النفوذ الإيراني. والدليل على هذه المقايضة هو المفارقة بين التنديد الغربي بمجازر نظام الأسد، والسكوت عن مجازر التحالف العربي المتدخل في اليمن، والتي ترتكب بأسلحة غربية...
في الوقت الذي تتعزّز فيه التسلطية تزداد وتيرة الحراك في البلدان العربية، ولو بشكلٍ متقطع، ويتحوّل الاحتجاج الاجتماعي إلى نمط للاحتجاج على السلطة، في ظل الانسداد السياسي، وغلق كل قنوات التعبير من طرف الأنظمة الجاثمة على صدور المواطنين العرب. ما يعني أن هناك مخاطر مواجهة عنيفة، ستتسبب في سقوط ضحايا، وربما مجازر في حق المواطنين، خصوصا أن الأنظمة القائمة عازمةٌ على خلف نفسها في السلطة، مهما كان الأمر، حتى ولو كلف ذلك تدمير البلاد وتخريبها على آخرها، أو وضعها تماماً تحت النفوذ الخارجي، وبالتالي التضحية بالقرار الإستراتيجي للدول. ويمكن في الختام القول إن الدولة العربية المعاصرة تتأرجح بين نماذج فرعية للتسلطية، لا تختلف في طبيعتها، وإنما في درجة تعزيزها وقدراتها على ذلك بتواطؤ خارجي.
لا مبالغة في القول إن هامش الحرية، الضيق أصلاً، في الدول العربية كلها، ازداد تقلصاً في السنوات الأخيرة، في سياقٍ حلّ فيه الخطاب الأمني محلّ الخطاب الديمقراطي، وتعزّزت فيه الشرعية الدينية و/ أو الثورية للأنظمة، بشرعية فتّاكة للحريات الأساسية، وهي الشرعية
قادت كل المراحل الانتقالية، سواء الأولى (نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات) أو التي تلت، (أو أوحت بذلك) الربيع العربي إلى النتيجة نفسها: تعزيز التسلطية، وبشكل مثير للانتباه، كما هو الحال في مصر والجزائر والمغرب، وإن كانت بمستوياتٍ مختلفة. وحتى الدول التسلطية التي لم يسبق أن عرفت الانتقال على الإطلاق تتعزّز فيها التسلطية، ويزداد فيها القمع، كما حال السعودية. أما الدول العربية التي شهدت انتفاضات ديمقراطية في إطار أحداث الربيع العربي، فقد تفرّقت مساراتها واختلفت، فإذا كانت تونس، صاحبة المبادرة والسباقة في الانتفاضة، خرجت بعض الشيء سالمةً من مخالب تعزيز التسلطية، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للدول الأخرى. وإن كانت تونس تعيش مفارقة أساسية: الانتفاضة الديمقراطية جاءت بقوة محافظة (الإسلاميين) وبالحرس القديم إلى السلطة. كل هذا الحراك من أجل هذا؟
أما مصر فهي النموذج المناقض تماماً للنموذج التونسي، لأن العسكر لم ينجحوا فقط في إعادة نظام حسني مبارك التسلطي الذي كان قائماً قبل الانتفاضة التي أطاحته، بل عزّزوا التسلطية بشكل شديد. فتسلطية نظام مبارك تبدو اليوم "مرنة"، مقارنة بالتسلطية المحكمة التي أقاموها منذ إطاحتهم الرئيس المنتخب محمد مرسي.
فيما تحولت ليبيا وسورية واليمن أشلاء ممزقة. كان في الأولى تغيير النظام محلي التنفيذ، لكنه أجنبي الأداء، نظراً للتدخل العسكري الغربي في البلاد، بغطاء وتمويل بل ومشاركة من أنظمة عربية، انتهزت الفرصة لتصفية حسابات سياسية مع نظام معمر القذافي. ولسان حالها: نحن مع الحرية للشعب لكن ضد الحرية لشعوبنا! وهنا مكمن التناقضات العربية، فكل الدول العربية غير ديمقراطية، وبالتالي لا يمكنها ادّعاء دعم الديمقراطية، فاقد الشيء لا يعطيه. أما سورية التي شهدت عسكرة مبكرة للانتفاضة، على نمط ليبيا، فلم تكن في البداية مسرحاً للتدخل الخارجي المباشر، لكن مع تطوّر حربها الأهلية صارت ميدانياً لنوعين من التدخل. تدخل عبر أطراف ثالثة من دعم فصائل المعارضة المسلحة عسكرياً ومالياً. وتنخرط أطراف عربية
في الوقت الذي تتعزّز فيه التسلطية تزداد وتيرة الحراك في البلدان العربية، ولو بشكلٍ متقطع، ويتحوّل الاحتجاج الاجتماعي إلى نمط للاحتجاج على السلطة، في ظل الانسداد السياسي، وغلق كل قنوات التعبير من طرف الأنظمة الجاثمة على صدور المواطنين العرب. ما يعني أن هناك مخاطر مواجهة عنيفة، ستتسبب في سقوط ضحايا، وربما مجازر في حق المواطنين، خصوصا أن الأنظمة القائمة عازمةٌ على خلف نفسها في السلطة، مهما كان الأمر، حتى ولو كلف ذلك تدمير البلاد وتخريبها على آخرها، أو وضعها تماماً تحت النفوذ الخارجي، وبالتالي التضحية بالقرار الإستراتيجي للدول. ويمكن في الختام القول إن الدولة العربية المعاصرة تتأرجح بين نماذج فرعية للتسلطية، لا تختلف في طبيعتها، وإنما في درجة تعزيزها وقدراتها على ذلك بتواطؤ خارجي.