استهلت العملة التركية الأسبوع الجاري بارتفاع ملحوظ بعد تراجع كبير أصابها في الآونة الأخيرة، فقد ارتفع سعرها مع بداية التعاملات أمس الإثنين، إلى 4.67 ليرات مقابل الدولار، في الوقت الذي يقيّم فيه المستثمرون آفاق السياسة النقدية بعد زيادة طارئة من البنك المركزي لأسعار الفائدة الأسبوع الماضي بمقدار 3 نقاط مئوية.
واستعاد سعر الليرة مسار تعافيه على نحو لافت، بعدما هوى سعر صرف الليرة التركية يوم الأربعاء الماضي إلى أدنى مستوى عرفته العملة، منذ تم إلغاء أصفارها الستة مطلع عام 2005، ليسجل الدولار 4.92 ليرات، ما رآه محللون "كارثة"، واستدعى استنفاراً حكومياً تركياً، تجلى عبر رفع سعر الفائدة وتحويل بورصة إسطنبول جميع العملات الأجنبية الزائدة عن احتياجاتها على المدى القصير إلى الليرة التركية، كعامل حماية لليرة من التدهور.
لكن تلك الإجراءات، لم توقف انخفاض سعر الصرف، الذي يرجعه متخصصون إلى أسباب بمعظمها سياسية وخارجية، تزامنت مع التحضير للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستجري بتركيا في 24 يوليو/ تموز المقبل.
وينسب مراقبون لحزب العدالة والتنمية، منذ وصوله للحكم نهاية عام 2002، تحويل الاقتصاد التركي، من نقطة ضعف للدولة، إلى نقطة قوة وبداية تلمس "حلم المئوية" التي وضعها الحزب لاحقاً، كخطة استراتيجية بعام 2023، يصل خلالها نادي الاقتصادات العشرة الأكبر.
إذ ترك "العدالة والتنمية" وراءه مرحلة الأزمة الاقتصادية التي عاشتها تركيا عام 2001 وانخفاض نسبة نمو الاقتصاد بنسبة 5.7%، لتبدأ مع مرحلة "صفر المشاكل" مع الجوار والانفتاح على الخارج، زيادة نسبة النمو لتصل إلى 5.3% في عام 2003، ونسبة 9.4% في 2004، وبنسبة 8.4% في 2005، وبنسبة 6.9% في 2006، وبنسبة 4.7% في 2007.
أما في نهاية عام 2008 فبدأت الأزمة الاقتصادية العالمية بالتأثير في تركيا، ومع ذلك نما الاقتصاد التركي في ذلك العام 0.7%، في حين أنه تراجع في عام 2009 بنسبة 4.8%، وتوالت نسب النمو القياسية، حتى رأيناها العام الفائت عند 7.2%، لتتفوق تركيا بذلك ليس على القارة الأوروبية وحسب، بل لتصل إلى أعلى نسبة نمو في العالم.
ولأن سعر صرف الليرة كان من الأقل عالمياً، ألغت الحكومة التركية في 3 يناير/ كانون الثاني عام 2005 ستة أصفار من العملة الوطنية، وبدأت العمل بالليرة الجديدة، في خطوة رآها مراقبون تأكيداً لاستقرارها الاقتصادي.
واعتبرت الحكومة التركية أن إصدار الليرة الجديدة يجسد التراجع المدهش للتضخم المزمن في الاقتصاد، الذي يأتي ثمرة للإصلاحات المؤلمة التي بدأتها البلاد منذ عام 2001 عندما تعرضت لواحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها.
وأدت انعكاسات التضخم السلبية إلى فقد العملة التركية قيمتها ودفع الائتلافات الحكومية المتتالية إلى استدانة مليارات الدولارات لإنعاش اقتصاد البلاد، قبل أن تسدد حكومة العدالة والتنمية، في يونيو/ حزيران 2013 آخر قسط من ديونها لصندوق النقد الدولي.
وبدأت منذ عام 2005 رحلة جديدة لليرة التركية التي باتت تساوي 0.5 يورو أو 0.7 دولار، لكن ذلك السعر لم يستمر طويلاً، إذ تراجع سعر الصرف لنحو 1.42 ليرة للدولار مع نهاية عام 2006.
واستمرت الليرة بالتراجع لتصل في بداية عام 2013 إلى 1.75 ليرة للدولار مع بداية "أحداث حديقة جيزي"، ولتقفل سنة 2014 على 2.27 ليرة للدولار وتحافظ على مستوى هذا السعر، مع تراجع بسيط حتى مارس/ آذار 2016، وقت وصل سعر صرف الدولار إلى نحو 2.557، لتفقد الليرة خلال عامين 45% من قيمتها.
ويعتبر مراقبون أن ليلة الانقلاب الفاشل في تركيا، 15 يوليو/ تموز، كانت تأريخاً جديداً لليرة، وقت تراجع سعر صرفها إلى 2.94 ليرة، لتفقد نحو 4% من قيمتها، قبل أن تتحسن بأول يوم عمل بعد يومي عطلة تلت الانقلاب، بنحو 3%.
إلا أن حاجز 3 ليرات للدولار لم يكن بعيداً، على رغم ما اعتبره مراقبون وقتذاك "حاجزاً نفسياً" إن تعدته الليرة فستستمر بالتراجع.
وأتت تفجيرات عدة طاولت الولايات التركية بعد انقلاب تموز/يوليو 2016، ربما أهمها وأخطرها في إسطنبول، التي شهدت تفجيري السلطان أحمد وبشكتاش ليتراجع سعر الصرف تباعاً ليصل إلى 3.521 ليرات، وتحافظ الليرة على هذا المستوى، مع تذبذبات طفيفة، حتى مطلع مايو/ أيار 2017 وقت سجلت الليرة التركية، أعلى سعر أمام الدولار في 5 شهور عند 3.531 ليرات، بعدما فقدت 3% من قيمتها منذ بداية 2017، و25% العام الفائت ونحو 57% من قيمتها خلال عامين.
ودخلت الليرة عام 2018 بتحسن نسبته 1.16% بعد انتهاء أزمة التأشيرات بين أنقرة وواشنطن، ليبلغ سعر الدولار 3.7711 ليرات، بعدما كانت تعدت 4 ليرات للدولار قبل شهر من إقفال ملف التأشيرات مع الولايات المتحدة.
وشهدت الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري تراجعات مستمرة لسعر صرف الليرة التركية، ربما كان يوم 18 إبريل/ نيسان أفضل سعر لليرة، بعد الإعلان عن الانتخابات المبكرة، لتتحسن الليرة مقابل الدولار من 4.061 إلى 4.035 ليرات، ولتنزل دون 5 ليرات لليورو للمرة الأولى في نحو شهر، وتسجل 4.995 ليرات لليورو، ولتعاود التراجع خلال مايو الجاري وتخسر أكثر من 8%، ولتقترب نسبة التضخم من 10.85% ولتسجل الأربعاء الفائت أدنى سعر لها على الإطلاق، عند 4.92 مقابل الدولار، وتخسر 4% من قيمتها في يوم واحد، ونحو 22% خلال العام الجاري.
هذا التدهور دفع الحكومة التركية إلى إصدار سلسلة من التصريحات والتعهد باتخاذ إجراءات لمكافحة التضخم والحد من تدهور العملة المحلية، وتدخل البنك المركزي والبورصة لـ"تحريك سعر الفائدة على الإقراض وتحويل الأموال الزائدة بالبورصة"، ليتحسن السعر قليلاً وتسجل الليرة 4.55 مقابل الدولار، ولتتأرجح منذ ذاك التاريخ حتى اليوم الإثنين عند 4.569 للدولار.
ويرى محللون أن الانتخابات المبكرة والمضاربات بالسوق والاستهداف الخارجي لليرة التركية، وربما الأبرز، تصنيف ديون تركيا السيادية إلى مرتبة أقل ضمن فئة الديون العالية المخاطر، أهم أسباب تراجع سعر صرفها، إذ لا أسباب اقتصادية برأيهم، تبرر خسائر الليرة من قيمتها، بواقع تحسن جميع المؤشرات وعوامل تحديد سعر الصرف، من احتياطي نقدي أجنبي يزيد عن 120 مليار دولار وصادرات بنحو 160 مليار دولار وعائدات سياحية تجاوزت 26 مليار دولار العام الفائت ويتوقع أن تزيد عن 30 مليارا العام الجاري.
ويقول المحلل التركي يوسف صالحة: "ستستمر المواجهة بين الحكومة والمصرف المركزي في الداخل مع لوبيات الضغط من الخارج، حتى يوم 25 يوليو/ حزيران المقبل، وأتوقع أن النهاية ستكون لمصلحة تركيا والليرة التي تحسن سعر صرفها خلال الأيام الأخيرة".
ويعتبر صالحة في حديثه لـ"العربي الجديد" أن سعر الليرة اليوم هو سعر نفسي وسياسي ولا يعبر عن قيمتها الحقيقية، ولا عن النسب العالية التي يحققها الاقتصاد التركي، مشيراً إلى أن للتضامن الشعبي خلال الأيام الأخيرة وكشف الحكومة "أطراف الحرب في الخارج" دوراً في تحسن سعر الصرف وعدم بلوغها 5 ليرات للدولار كما يروّج البعض.