تتواصل في روسيا التحقيقات التي تتناول وقائع تعذيب السجناء، بعدما شغلت تلك القضية الرأي العام الروسي في الأسابيع الماضية وأثارت تساؤلات حول ما إذا كانت الانتهاكات الجسدية بحق المعتقلين حالات فردية أو منهجية وواسعة النطاق. وكانت فضيحة التعذيب قد انتشرت بعدما بثّت صحيفة "نوفايا غازيتا" الليبرالية المعارضة تسجيل فيديو يظهر تعرّض سجين يدعى يفغيني ماكاروف في مؤسسة سجنيّة بمقاطعة ياروسلافل للتعذيب والضرب، وهو مكبّل اليدَين. وفي مقاطعة بريانسك، لفظ سجين آخر أنفاسه الأخيرة اختناقاً، ويُشتبه في أنّ ذلك حدث بعدما لفّ موظف في السجن وجهه بالقماش. وتُعدّ هذه قضية تعذيب ثانية خلال فترة وجيزة.
من أجل الحدّ من تكرّر حوادث مماثلة في المستقبل، وعدت الهيئة الفيدرالية لتنفيذ العقوبات في روسيا بإلزام موظفيها تصوير "عمليات استخدام القوة والمعدّات الخاصة"، في حين اضطر نائب رئيس الهيئة يفغيني ماكسيمينكو إلى تقديم الاعتذار إلى ماكاروف الذي تعرّض للضرب. وفي حين أوقِف ثمانية متّهمين في حادثة ياروسلافل وآخر في حادثة بريانسك، يتخوّف ناشطون حقوقيون من استمرار هذه الظاهرة المخيفة في ظل غياب الإحصاءات الدقيقة والقوانين الواضحة التي تعاقب المسؤولين عن الاعتداءات الجسدية في السجون.
ويعيد مدير المنظمة الحقوقية "لجنة منع التعذيب"، إيغور كاليابين، انتشار التعذيب في السجون الروسية إلى مجموعة من العوامل، أبرزها عدم وجود مادة تتناول التعذيب في القانون الجنائي الروسي، بالإضافة إلى خوف المساجين من التقدّم بشكاوى، وتخاذل المحققين عن رفع قضايا جنائية، وإخفاء وقائع التعذيب من قبل موظفي الهيئة الفدرالية لتنفيذ العقوبات. ويقول كاليابين لـ"العربي الجديد" إنّه "على الرغم من أنّ اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب تلزم الدول الأعضاء بوضع مادة منفصلة خاصة بالتعذيب من ضمن القوانين الجنائية، فإنّ الوضع في روسيا يختلف بعض الشيء عن غيره في بلدان أخرى، ويُلاحَق المنتهِكون بموجب مادتَي تجاوز الصلاحيات والضرب. كذلك فإنّ المساجين يخافون في أحيان كثيرة من التقدّم بشكاوى إلى إدارة السجون، لأنّ ذلك قد يؤدّي إلى انتهاكات جديدة بحقهم".
وحول كيفية تستر الجهات المعنية على وقائع التعذيب، يقول كاليابين: "في البداية، بعد مشاهدة فيديو ضرب ماكاروف، لم يرصد المحقق تجاوزاً للصلاحيات. في أحيان كثيرة، لا تحرّك إدارات السجون الشكاوى ضد موظفيها. ويلجأ أفراد هيئة تنفيذ العقوبات إلى مختلف الأساليب للتستر على وقائع التعذيب، بما في ذلك مونتاج تسجيلات كاميرات المراقبة وترويع الضحايا وغيرهما".
بين عام 2015 وعام 2017، أدين 2732 شخصاً بتهمة "تجاوز الصلاحيات" في روسيا، لكنّه لم يُسجن منهم إلا 572 شخصاً فقط في حين أنّ الآخرين حصلوا على غرامات مالية لا تزيد قيمتها عن 1500 دولار أميركي وأحكام بالسجن مع وقف التنفيذ، الأمر الذي يعكس النسب العالية لإمكانية الإفلات من العقاب.
من جهته، يشير المحامي سيرغي غولوبوك لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ كلّ "مواقف المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تحظر استخدام القوة البدنية بحق المساجين"، مضيفاً أنّه "لا يجوز لأفراد هيئة تنفيذ العقوبات اللجوء إلى القوة البدنية والمعدّات الخاصة إلا في حالات محددة، من قبيل الدفاع عن النفس. على أيّ حال، وانطلاقاً من المواقف القانونية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، لا يجوز استخدام القوة البدنية بحقّ المساجين العزّل".
وعن كيفية وضع حدّ للتعذيب في السجون الروسية، يقول غولوبوك إنّه "من الممكن منع التعذيب من خلال تحقيقات فعالة ومساءلة المخطئين. كذلك، ثمّة عدداً من التوصيات التي وضعتها لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة واللجنة الأوروبية لمنع التعذيب التي تعمل في إطار مجلس أوروبا". ويتابع أنّ "الطريقة الأفضل لمنع التعذيب في السجون، هي السماح للحقوقيين المستقلين بالاطلاع على أحوال المساجين والتحدث معهم بسرية".
وكانت صحيفة "نوفايا غازيتا" قد نشرت في النصف الثاني من يوليو/ تموز المنصرم، تسجيل فيديو مدّته عشر دقائق يظهر تعرّض أحد السجناء للضرب المبرح مع سماع صرخاته. وأثار هذا الفيديو الذي حقق أكثر من 2.5 مليون مشاهدة، استياءً كبيراً في أوساط الحقوقيين في روسيا الذين طالبوا بتحقيقات في هذه الواقعة المروعة. وعلى الأثر، اضطرت روسيا إلى تقديم إيضاحات أمام الأمم المتحدة، وقد زعم الوفد الروسي أمام لجنة مناهضة التعذيب أنّ هذه الحالة هي الوحيدة التي تمّ إثباتها ووعد بمواصلة التحقيقات ومعاقبة المسؤولين "مهما كانت رتبهم". لكنّ ذلك لم يقنع رئيس اللجنة الأممية، ينس مودفيغ، الذي رأى أنّ التسجيلات لا تدلّ على فاعلية التحقيق ولا سرعته، مشيراً إلى أنّ واقعة تعذيب ماكاروف حدثت قبل عام كامل من نشرها.