31 أكتوبر 2024
تظاهرات إيران تنزع أحجبة الملالي
لم تخرج تظاهرات إيران أخيراً من المساجد، بعد صلاة الجمعة، ولا أطلقت صيحات التكْبير. ولم تصدر أي فتوى بتحريمها. ربما لأن أصحاب الفتاوي تلمسوا مبكراً مناخها. فالمتظاهرون هاجموا الحسينيات والحوزات العلمية الدينية ومصارف "الحرس الثوري". وأحرقوا، في أيامهم الأولى، صور شخصيات معصومة... آيات الله، مثل الخميني وعلي خامنئي. وهم أطلقوا الشتائم ضد المرشد: "سيد علي (خامنئي) اخجل من نفسك وارحل"، أو "الموت للديكتاتور"، أو "الموت للمرشد". بل رفعوا شعارات "امبراطورية" منها "بهلوي بهلوي"، أو "رضا شاه ملك الملوك". والأرجح أن المُلك البهلوي، في سياق الشعارات الأخرى، لا يعني حباً رجعياً، بقدر ما يعني التطلّع إلى حكمٍ لا يتصف بالدينية. فمن المعروف أن الشاه الأب والابن كانت لهما سياسة لا دينية، فارسية قومية، مع قدر من العداء لمظاهر الدين، كالحجاب والمواكب الدينية العامة... إلى حدّ أن الشاه الأب لُقِّب بـ"أتاتورك" إيران، تشبيهاً بنظيره التركي صاحب الميول العلمانية الأوضح.
على الرغم من القمعين، الأيديولوجي والأمني، خرج المتظاهرون، ليقولوا إنهم، باحتجاجهم على أزمتهم الاقتصادية، غير معنيين بدينية سلطة الملالي، ولا بكفاءتهم الاقتصادية أو التنموية. القدسية والعصمة والجلال أصبحوا لا يطيقونها، ولا هم مقتنعون بها. هذه الهالة بنتها الثورة الإسلامية، وفرضتها بقوة الإيمان والأمن، ثم جاء العصيان ضدها من القاعدة الشعبية التي انبنتْ عليها.
ثمّة جانب آخر لهذا التحول في وجهة النظر. لم يكتف المتظاهرون بالاحتجاج على البطالة والفقر وزيادة الأسعار، إنما حمَّلوا حكامهم جرائم الفساد والمحسوبية المقيمَين في إدارات الدولة. وإدانة واضحة لما تسمّى في إيران سياسة "آغازاده"، أو سياسة "ابن فلان..."
الشهيرة في أوطاننا. الربط بين الفساد وأنشطة الحرس الثوري جاء منذ أشهر، بعد زلزال كرمنشاه، وقد تقاعست السلطات هناك عن القيام بواجباتها الإنقاذية. وكانت صرخات الأهالي المنكوبين تقول "المشكلة في مدينتنا أنها واقعة في إيران، لا في سورية ولا في لبنان". دع عنك الآن التوسع الخارجي لايران، وانظر إلى الداخل: فساد يضرب في أسس الدولة. فساد معلن ومعترف به رسمياً. حتى الرئيس "المعتدل"، حسن روحاني، وجه اتهاماتٍ إلى مسؤولي المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية الخيرية بنهب الثورة الوطنية، وذلك خلال تقديمه لميزانية الدولة في الشهر الماضي. كأنك في الدولة اللبنانية! مسؤولون يتهمون صراحةً مسؤولين آخرين بالفساد... وإشهار فساد الدولة الإسلامية، والنيل من قداستها، يزيلان هالة إضافية، كان الملالي يبهرون بها المصدّقين: هالة المعصومين من الخطأ والخطيئة. هالة "سلالة الأنبياء"، الصادقين، المتنزِّهين: هؤلاء الذين يتحجّجون بالتفوق الأخلاقي للدولة الإسلامية. والفاسدون يمكن أن يكونوا علمانيين أو إسلاميين. مع الفرق أن العلماني متهم مسبقاً بقلّة الأخلاق، فيما الإسلامي بريء سلفاً: إنه الشريف، العفيف، الأمين، واتهامه بمثابة اتهام للإسلام الذي يحكم به.
هذه الأخلاق جرّستها التظاهرات علناً، وبإصرار. وفضحت معها أسطورةً أخرى من أساطير الإسلام السياسي الشيعي. من كونه، خلافاً للإسلام السياسي السني، موحَّد واحد، بقيادة وعصبية واحدة، أو "هوية" واحدة. التظاهرات رفعت الحجاب عن هذا الوهم. فهي انطلقت بالأساس بتحريضٍ من إبراهيم رئيسي، مرشح خاسر في الرئاسيات الأخيرة، القريب من أحمدي نجاد، بطل أكبر الفضائح بالفساد، بعدما أذاع جزءاً منه رسمياً الرئيس "المعتدل"، حسن روحاني. أي أنها انطلقت بفضل جناح من الأجنحة ضد جناح آخر. ثم بعد ذلك "انحرفت" عن مسارها المرسوم، وتفلّتت من وصاية المحرِّضين عليها، بل انقلبت عليهم بهجومها الصاعق على الرموز الدينية كلها، المعتدلة منها والمتشدّدة. هذه أسطورة ثالثة تُضرب بحجر الواقع السياسي الحيّ، ولا تنتظر الجدالات والتكهنات. الإسلام السياسي لا يوِّحد المسلمين سياسياً؛ شيعة كانوا أم سنّة، داخل السلطة أو خارجها. لأن الهوى السياسي مبنيٌّ على مصالح مادية ملموسة، نسبية، متقلبة، مثل البشر. فيما الهوى الديني ينتمي إلى العالم الآخر، المطلق، الثابت. وإذا دمج المتصارعون الهويَين، المصالح والعقيدة، فلا بد أن تصبح العقيدة في خدمة المصالح، فتخرب العقيدة وتخرب المصالح. وتكون أحجبة النفاق خير سلاح؛ حجاباً فوق آخر، مثل دروعٍ تحمي من الحقيقة. فيكثر الوعاظ، ومعهم الدجالون والأفَّاقون والشطار من المموِّهين.
من هنا أيضاً تأتي الشعارات المعادية لتوسع إيران في بلدان المشرق. من "الموت لحزب الله"، إلى "لا غزة ولا لبنان روحي فدا إيران"، "اهتموا بنا لا بفلسطين"، إلى "اتركوا سورية
وشأنها، افعلوا شيئاً لأجلنا". كلها تنضح بمشاعر سياسية مباشرة ضد توسّع دولتهم على حسابهم. ولا يخرج منها أي "تضامن"، ديني أو مذهبي، أو أنتي أمبريالي، تجاه الشيعة العرب المنجرفين في المشروع الإيراني؛ أو أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بأن إيران تريد تحرير فلسطين. هم مثلاً لم يطلقوا ولا شعاراً واحداً ضد تدخل بلادهم في العراق. مع أنه التدخل الأقوى، المتسلّل في قلب الدولة العراقية العميقة. والأرجح أن السبب هو تفوق شعورهم القومي على شعورهم الديني. العراق بالنسبة لهم الجار الذي خاض ضد دولتهم أبشع الحروب وأطولها (1980-1988). وقد يكون شعورهم القومي هذا حافزاً على سكوتهم عن هذا التدخل في العراق، وربما الابتهاج بـ"الثأر" التاريخي لبلدهم على عراق صدام، بعد أكثر من عقد على إعدامه.
ثلاث دعائم أساسية لأي حكم إسلامي تعرّضت للاهتزاز بلسان المتظاهرين. ربما يستمرون، ربما توقفهم الحملة الأمنية، أو الوعود والترقيعات، أو اللعب على نقطة "الاستقرار"، وبرقيات دونالد ترامب التويترية، المؤيدة لتحركاتهم. ولكن في كل الأحوال أعرب أولئك المتظاهرون، وهم القاعدة الشعبية لنظام الملالي، عن رفضهم له: نزعوا عنه أحجبة الطهارة، أبرزوا قلّة أخلاق القيمين عليه، وأضاؤوا على أجنحته المتصارعة، وعيّروه بانعدام كفاءته.
التظاهرات الإيرانية لم تخرج من المساجد. قبلها بسنوات، التظاهرات السورية الأولى ضد النظام، خرجت من المساجد. وقتها تذرّع بعض علمانيينا بأنهم لا يؤيدون الثورة على بشار الأسد، لأنها ثورة "دينية"، فيما بشار "علماني". حسناً، والآن؟ كيف "يقيّمون" تظاهرات إيران؟ التواقة لنقد الرموز الدينية، وشتمها وإحراقها وتمنّي الموت لها؟ هل يؤيدونها، فينفرط بذلك عقد تأييدهم لبشار؟ أم يعارضونها، ويكرّرون ما يبثه الملالي من دروس بشار الأسد، من أن المتظاهرين "إرهابيون"، "مدسوسون"، "مأجورون".. فيحفظون بذلك صحة "خطهم" السياسي.. متشبّهين بأصحاب العقائد الأخروية؟
على الرغم من القمعين، الأيديولوجي والأمني، خرج المتظاهرون، ليقولوا إنهم، باحتجاجهم على أزمتهم الاقتصادية، غير معنيين بدينية سلطة الملالي، ولا بكفاءتهم الاقتصادية أو التنموية. القدسية والعصمة والجلال أصبحوا لا يطيقونها، ولا هم مقتنعون بها. هذه الهالة بنتها الثورة الإسلامية، وفرضتها بقوة الإيمان والأمن، ثم جاء العصيان ضدها من القاعدة الشعبية التي انبنتْ عليها.
ثمّة جانب آخر لهذا التحول في وجهة النظر. لم يكتف المتظاهرون بالاحتجاج على البطالة والفقر وزيادة الأسعار، إنما حمَّلوا حكامهم جرائم الفساد والمحسوبية المقيمَين في إدارات الدولة. وإدانة واضحة لما تسمّى في إيران سياسة "آغازاده"، أو سياسة "ابن فلان..."
هذه الأخلاق جرّستها التظاهرات علناً، وبإصرار. وفضحت معها أسطورةً أخرى من أساطير الإسلام السياسي الشيعي. من كونه، خلافاً للإسلام السياسي السني، موحَّد واحد، بقيادة وعصبية واحدة، أو "هوية" واحدة. التظاهرات رفعت الحجاب عن هذا الوهم. فهي انطلقت بالأساس بتحريضٍ من إبراهيم رئيسي، مرشح خاسر في الرئاسيات الأخيرة، القريب من أحمدي نجاد، بطل أكبر الفضائح بالفساد، بعدما أذاع جزءاً منه رسمياً الرئيس "المعتدل"، حسن روحاني. أي أنها انطلقت بفضل جناح من الأجنحة ضد جناح آخر. ثم بعد ذلك "انحرفت" عن مسارها المرسوم، وتفلّتت من وصاية المحرِّضين عليها، بل انقلبت عليهم بهجومها الصاعق على الرموز الدينية كلها، المعتدلة منها والمتشدّدة. هذه أسطورة ثالثة تُضرب بحجر الواقع السياسي الحيّ، ولا تنتظر الجدالات والتكهنات. الإسلام السياسي لا يوِّحد المسلمين سياسياً؛ شيعة كانوا أم سنّة، داخل السلطة أو خارجها. لأن الهوى السياسي مبنيٌّ على مصالح مادية ملموسة، نسبية، متقلبة، مثل البشر. فيما الهوى الديني ينتمي إلى العالم الآخر، المطلق، الثابت. وإذا دمج المتصارعون الهويَين، المصالح والعقيدة، فلا بد أن تصبح العقيدة في خدمة المصالح، فتخرب العقيدة وتخرب المصالح. وتكون أحجبة النفاق خير سلاح؛ حجاباً فوق آخر، مثل دروعٍ تحمي من الحقيقة. فيكثر الوعاظ، ومعهم الدجالون والأفَّاقون والشطار من المموِّهين.
من هنا أيضاً تأتي الشعارات المعادية لتوسع إيران في بلدان المشرق. من "الموت لحزب الله"، إلى "لا غزة ولا لبنان روحي فدا إيران"، "اهتموا بنا لا بفلسطين"، إلى "اتركوا سورية
ثلاث دعائم أساسية لأي حكم إسلامي تعرّضت للاهتزاز بلسان المتظاهرين. ربما يستمرون، ربما توقفهم الحملة الأمنية، أو الوعود والترقيعات، أو اللعب على نقطة "الاستقرار"، وبرقيات دونالد ترامب التويترية، المؤيدة لتحركاتهم. ولكن في كل الأحوال أعرب أولئك المتظاهرون، وهم القاعدة الشعبية لنظام الملالي، عن رفضهم له: نزعوا عنه أحجبة الطهارة، أبرزوا قلّة أخلاق القيمين عليه، وأضاؤوا على أجنحته المتصارعة، وعيّروه بانعدام كفاءته.
التظاهرات الإيرانية لم تخرج من المساجد. قبلها بسنوات، التظاهرات السورية الأولى ضد النظام، خرجت من المساجد. وقتها تذرّع بعض علمانيينا بأنهم لا يؤيدون الثورة على بشار الأسد، لأنها ثورة "دينية"، فيما بشار "علماني". حسناً، والآن؟ كيف "يقيّمون" تظاهرات إيران؟ التواقة لنقد الرموز الدينية، وشتمها وإحراقها وتمنّي الموت لها؟ هل يؤيدونها، فينفرط بذلك عقد تأييدهم لبشار؟ أم يعارضونها، ويكرّرون ما يبثه الملالي من دروس بشار الأسد، من أن المتظاهرين "إرهابيون"، "مدسوسون"، "مأجورون".. فيحفظون بذلك صحة "خطهم" السياسي.. متشبّهين بأصحاب العقائد الأخروية؟