02 نوفمبر 2024
تطبيل في مصر وزعيق في لبنان
تشكل كوارث المنطقة في ما تشكل مناسبةً لتأكيد الفراق بين ثقافتين، في مقاربة العمل الصحافي، بات يصعب القول إنهما قد يلتقيان. فراق يؤكد فرضية بعض العاملين في التدريب الصحافي في المنطقة، ما بعد الثورات، في أن تصدير نماذج من الخارج لا ينفع في تغيير الداخل، وهي مقولة قد تخفي كلاماً يقال في السر، وأحياناً في العلن، ومفاده بأن الديموقراطية وتبعاتها ليست للتصدير، بما في ذلك الصحافة المستقلة عن السلطة، وعن التطبيل لها.
مضحكة مبكية ردود فعل بعض الصحافة المصرية على تحقيقات الصحافة البريطانية بشأن حادث سقوط الطائرة الروسية في شرم الشيخ، وقرار تعليق رحلات نقل السياح البريطانيين، بوصفها مؤامرة تستهدف الدولة المصرية، وسط أجواء محمومة من استهداف الصحافة الناقدة، أو القليل مما تبقى منها، وتنظيم تظاهرات شعبية مسعورة بـ "الحس الوطني"، دفاعاً عن نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي، باعتباره ضحية مؤامرة خارجية لإسقاطه.
يصعب تحليل ظاهرة الشعبوية الإعلامية المستبسلة دفاعاً عن نظام السيسي، والتي باتت "إبداعاتها" تثير، أولاً، شعوراً بالعار لما وصلنا إليه من انتهاك لمهنة الصحافة في أبسط أصولها. تنشر صحيفة المساء الحكومية، في صفحتها الأولى، صورة جزمة تدوس على عناوين الصحف البريطانية التي نشرت تحقيقات حول حالات فساد ورشوة في إدارة مطار شرم الشيخ، تحت عنوان "مصر ليست للكسر". في عرف الصحيفة وقسم كبير من "الصحافيين" ومن الرأي العام، لا يمكن للصحافة البريطانية أن تنشر هذه التحقيقات إلا مدفوعة بتعليمات، شبيهة بالتي تتلقاها بعض الصحافة المصرية، وبعض الصحافة العربية، في كيفية معالجة أزماتٍ، بما يتلازم مع الخطاب الرسمي ويعمّمه. هل يعقل أن يكون معدّو هذه التحقيقات "التشهيرية" بحق مصر، ولو أنها استندت إلى شهادات مسافرين وموثقة بالدلائل، كتبوا ما كتبوه، من دون أن يتلقوا تعليماتٍ من مهندسي المؤامرة على نظام السيسي، ولغرض غير أغراضها؟
كانت زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى لندن مناسبة جديدة، لتأكيد هذا الفراق بين الثقافتين. يكتب مراسل صحيفة ديلي تلغراف (اليمينية) ساخراً من إعلان المسؤولين في فريق رئيس الوزراء البريطاني اليميني، ديفيد كاميرون، عن تخصيص "برهة صحافية"، للرد على أسئلة الصحافة. تحت عنوان "الرئيس السيسي يواجه الصحافة، ...تقريباً"، يروي الصحافي حيرة قلة قليلة من الصحافيين، تنتظر معلومات حول ما إذا كان المسؤولان سيتحدثان للصحافة، لينتهي الأمر إلى مؤتمر صحافي بدون صحافة، على حد وصفه. يكتب الصحافي، مايكل ديكون، ساخراً أن "البرهة" الصحافية التي نالها ورفاقه قد يكون سبب قصر مدتها الزمنية رغبة كاميرون في ضمان سلامة الصحافيين، نظراً لسمعة السيسي في معاداته الصحافة، ووضع الصحافيين في السجن.
تكرّر مشهد الفراق الثقافي في زيارة السيسي ألمانيا، في مايو/أيار الماضي، يرافقه وفد كبير
من الإعلاميين التطبيليين. سبقت الزيارة التي انتهت إلى توقيع عقود اقتصادية ضخمة حملة شرسة من الإعلام الألماني ضد قرار المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، استقبال السيسي في أجواء من تراجع حقوق الإنسان والضغوط المتزايدة على الحريات العامة في مصر. خرج الصحافيون الألمان عن "وطنيتهم" في انتقاد زعيمة البلاد، في حين استمتع السيسي بمديح الإعلام المصري "الوطني" في التهليل لإنجازاته الدولية.
يتكرّر مشهد الفراق نفسه لمناسبة الهجمات الإرهابية التي أودت بحياة أكثر من 120 مدنياً في باريس. بدت استديوهات التلفزة الفرنسية كأنها في مدينة أخرى، ليست العاصمة الفرنسية. لم يذرف أي من مقدمي البرامج الحوارية الدموع مباشرة على الهواء، ولا لبسوا الأسود حداداً على الضحايا. لم يُسارعوا إلى رشق الاتهامات والتخوين لمسلمي فرنسا، بل على العكس، تدخل أحد المحاورين ليهدئ من روع أحد ضيوفه العرب الذي راح يشكو من تأثير "الإخوان المسلمين" والسلفية في تصدير العنف، ليرد عليه بالقول إن ثمة تيارات إسلامية لا تدعو للعنف. استقبل المحاور نفسه اتصالاً هاتفياً من أم فرنسية مسلمة، قتل ابنها في عداد الشرطة المكافحة للهجمات، لتؤكد تضامنها مع الدولة. في حين كانت عمليات القتل متواصلة في باريس في أكثر من موقع. كانت التلفزة الفرنسية تتابع التطورات الأمنية بهدوء، وترسل الرسالة تلو الأخرى حول أهمية تماسك المجتمع الفرنسي، بكل فئاته، في وجه التطرف الإسلامي دفاعاً عن الدولة العلمانية.
في مشهد مختلف تماماً من بيروت التي تعرّضت ضاحيتها الجنوبية لهجوم انتحاري إرهابي مزدوج، قبل يوم من عمليات باريس، تحولت شاشات التلفزة اللبنانية إلى عروض مبتذلة للوطنية وبطولة المراسلات والمراسلين الذين حولوا الضحايا الأبرياء إلى مناسبة لتسجيل مزيد من "الإنجازات المهنية"، بما في ذلك سؤال أمهات فقدن أبناءهن عمّا إذا كن شاهدن جثة الضحية. لا حرمة لجثة، ولا اعتبار لمشاعر الأهالي في فقدهم المرير الأحباء. إنه السبق على أشلاء الجثث، والعويل على الهواء مباشرة.
في مؤتمر صحافي، طرح الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، سؤالاً غريباً على الحضور، عندما غضب لانتقاد من باب الدعابة، جاء من أحد الصحافيين المقرّبين فراح يعبر عن معاناته لما يلحقه به الإعلام من ألم، في حين إنه يناضل لإنقاذ البلاد مما هي فيه. طرح السيسي سؤالاً غريباً: هل تقومون بتعذيبي، لأنني انتخبت رئيساً للجمهورية؟ "ما يصحش كده" (تحولت الجملة الأخيرة إلى مناسبة جديدة للفكاهة السياسية)... عفواً السيد الجنرال، هذا ما يحصل تماماً في ثقافة أخرى، عندما يقوم الإعلام بدوره المطلوب، في محاسبة المسؤول عن سياساته، ولا يواجه الصحافي "الاستفزازي" خطر السجن والتوقيف الاعتباطي بدون محاكمة، بسبب قيامه بعمله.
يحدث هذا كله في عالم آخر، في حين أننا مشغولون بالتطبيل للمسؤولين، والزعيق والعويل فوق أشلاء جثث ضحايانا.
مضحكة مبكية ردود فعل بعض الصحافة المصرية على تحقيقات الصحافة البريطانية بشأن حادث سقوط الطائرة الروسية في شرم الشيخ، وقرار تعليق رحلات نقل السياح البريطانيين، بوصفها مؤامرة تستهدف الدولة المصرية، وسط أجواء محمومة من استهداف الصحافة الناقدة، أو القليل مما تبقى منها، وتنظيم تظاهرات شعبية مسعورة بـ "الحس الوطني"، دفاعاً عن نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي، باعتباره ضحية مؤامرة خارجية لإسقاطه.
يصعب تحليل ظاهرة الشعبوية الإعلامية المستبسلة دفاعاً عن نظام السيسي، والتي باتت "إبداعاتها" تثير، أولاً، شعوراً بالعار لما وصلنا إليه من انتهاك لمهنة الصحافة في أبسط أصولها. تنشر صحيفة المساء الحكومية، في صفحتها الأولى، صورة جزمة تدوس على عناوين الصحف البريطانية التي نشرت تحقيقات حول حالات فساد ورشوة في إدارة مطار شرم الشيخ، تحت عنوان "مصر ليست للكسر". في عرف الصحيفة وقسم كبير من "الصحافيين" ومن الرأي العام، لا يمكن للصحافة البريطانية أن تنشر هذه التحقيقات إلا مدفوعة بتعليمات، شبيهة بالتي تتلقاها بعض الصحافة المصرية، وبعض الصحافة العربية، في كيفية معالجة أزماتٍ، بما يتلازم مع الخطاب الرسمي ويعمّمه. هل يعقل أن يكون معدّو هذه التحقيقات "التشهيرية" بحق مصر، ولو أنها استندت إلى شهادات مسافرين وموثقة بالدلائل، كتبوا ما كتبوه، من دون أن يتلقوا تعليماتٍ من مهندسي المؤامرة على نظام السيسي، ولغرض غير أغراضها؟
كانت زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى لندن مناسبة جديدة، لتأكيد هذا الفراق بين الثقافتين. يكتب مراسل صحيفة ديلي تلغراف (اليمينية) ساخراً من إعلان المسؤولين في فريق رئيس الوزراء البريطاني اليميني، ديفيد كاميرون، عن تخصيص "برهة صحافية"، للرد على أسئلة الصحافة. تحت عنوان "الرئيس السيسي يواجه الصحافة، ...تقريباً"، يروي الصحافي حيرة قلة قليلة من الصحافيين، تنتظر معلومات حول ما إذا كان المسؤولان سيتحدثان للصحافة، لينتهي الأمر إلى مؤتمر صحافي بدون صحافة، على حد وصفه. يكتب الصحافي، مايكل ديكون، ساخراً أن "البرهة" الصحافية التي نالها ورفاقه قد يكون سبب قصر مدتها الزمنية رغبة كاميرون في ضمان سلامة الصحافيين، نظراً لسمعة السيسي في معاداته الصحافة، ووضع الصحافيين في السجن.
تكرّر مشهد الفراق الثقافي في زيارة السيسي ألمانيا، في مايو/أيار الماضي، يرافقه وفد كبير
يتكرّر مشهد الفراق نفسه لمناسبة الهجمات الإرهابية التي أودت بحياة أكثر من 120 مدنياً في باريس. بدت استديوهات التلفزة الفرنسية كأنها في مدينة أخرى، ليست العاصمة الفرنسية. لم يذرف أي من مقدمي البرامج الحوارية الدموع مباشرة على الهواء، ولا لبسوا الأسود حداداً على الضحايا. لم يُسارعوا إلى رشق الاتهامات والتخوين لمسلمي فرنسا، بل على العكس، تدخل أحد المحاورين ليهدئ من روع أحد ضيوفه العرب الذي راح يشكو من تأثير "الإخوان المسلمين" والسلفية في تصدير العنف، ليرد عليه بالقول إن ثمة تيارات إسلامية لا تدعو للعنف. استقبل المحاور نفسه اتصالاً هاتفياً من أم فرنسية مسلمة، قتل ابنها في عداد الشرطة المكافحة للهجمات، لتؤكد تضامنها مع الدولة. في حين كانت عمليات القتل متواصلة في باريس في أكثر من موقع. كانت التلفزة الفرنسية تتابع التطورات الأمنية بهدوء، وترسل الرسالة تلو الأخرى حول أهمية تماسك المجتمع الفرنسي، بكل فئاته، في وجه التطرف الإسلامي دفاعاً عن الدولة العلمانية.
في مشهد مختلف تماماً من بيروت التي تعرّضت ضاحيتها الجنوبية لهجوم انتحاري إرهابي مزدوج، قبل يوم من عمليات باريس، تحولت شاشات التلفزة اللبنانية إلى عروض مبتذلة للوطنية وبطولة المراسلات والمراسلين الذين حولوا الضحايا الأبرياء إلى مناسبة لتسجيل مزيد من "الإنجازات المهنية"، بما في ذلك سؤال أمهات فقدن أبناءهن عمّا إذا كن شاهدن جثة الضحية. لا حرمة لجثة، ولا اعتبار لمشاعر الأهالي في فقدهم المرير الأحباء. إنه السبق على أشلاء الجثث، والعويل على الهواء مباشرة.
في مؤتمر صحافي، طرح الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، سؤالاً غريباً على الحضور، عندما غضب لانتقاد من باب الدعابة، جاء من أحد الصحافيين المقرّبين فراح يعبر عن معاناته لما يلحقه به الإعلام من ألم، في حين إنه يناضل لإنقاذ البلاد مما هي فيه. طرح السيسي سؤالاً غريباً: هل تقومون بتعذيبي، لأنني انتخبت رئيساً للجمهورية؟ "ما يصحش كده" (تحولت الجملة الأخيرة إلى مناسبة جديدة للفكاهة السياسية)... عفواً السيد الجنرال، هذا ما يحصل تماماً في ثقافة أخرى، عندما يقوم الإعلام بدوره المطلوب، في محاسبة المسؤول عن سياساته، ولا يواجه الصحافي "الاستفزازي" خطر السجن والتوقيف الاعتباطي بدون محاكمة، بسبب قيامه بعمله.
يحدث هذا كله في عالم آخر، في حين أننا مشغولون بالتطبيل للمسؤولين، والزعيق والعويل فوق أشلاء جثث ضحايانا.