بات الأمن القومي الشغل الشاغل لإدارة الرئيس دونالد ترامب، وفي هذا الصدد، صدر قبل أيام تقرير حول "استراتيجية الأمن القومي" الأميركي، المطلوبة في الظروف الراهنة. شارك في وضع التقرير ستيفن هادلي، مستشار الرئيس جورج بوش الابن لشؤون الأمن القومي، ونائب رئيس مؤسسة بروكنغز للدراسات والأبحاث المرموقة في واشنطن، السفير الأميركي الأسبق في إسرائيل، مارتن إنديك. الأول جمهوري والثاني ديمقراطي.
دعا التقرير إلى "تنشيط النظام الدولي القائم، منذ 70 عاماً، وإحيائه، واعتماد ذلك كأساس لسياسة خارجية تحظى بدعم الحزبين، بما يمنحها القوة والقدرة على الصمود". كما لفت إلى "الحاجة لإعادة بناء الثقة مع الحلفاء التقليديين العرب، على أمل استعادة الاستقرار إلى تلك المنطقة".
وأتت هذه المبادرة، مع دعوات أخرى مشابهة، في سياق إعراب النخب السياسية والفكرية عن حالة الذعر من التضارب الخطير في خطاب الإدارة الخارجي، المتعددة مصادره وتوجهاته، وما قد يؤدي إليه من انفلات في صياغة القرار الذي قد تفرضه أزمة دولية حادة. وفي هذا الإطار، أعرب وزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، عن مخاوفه "في حال وجدنا أنفسنا في مثل هذه الحالة". خوف بانيتا، مشروع، في ضوء تقلّبات وتناقضات مواقف ومقاربات الرئيس ترامب وإدارته، إزاء قضايا وملفات متعددة، شملت النظام الدولي والصين والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، والشرق الأوسط (التخلّي عن حلّ الدولتين). وحده الموقف من موسكو بقي على دفئه، على الرغم من ثبوت محاولة الروس للتأثير في الانتخابات الرئاسية في 8 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
في سياق مناقشتها هذه القضايا، تحديداً موضوع النظام الدولي أو التحالف الأوروبي ـ الأميركي المستمر، منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، شدّد نائب الرئيس، مايك بنس، للأوروبيين، على "حرص واشنطن على استمرارية علاقات الشراكة الأمنية مع القارة ودعمها". في المقابل، أبلغ مستشار الرئيس الاستراتيجي ستيف بانون، السفير الألماني في واشنطن، بيتر ويتيغ، أن "إدارة ترامب تنوي تعزيز العلاقات الثنائية مع البلدان الأوروبية". موقف بانون مختلف عن نظرة بنس، ورغب من خلاله القول إن "واشنطن لا تنوي، بعد الآن، التعامل مع الاتحاد الأوروبي، الذي لا يأخذه الرئيس وفريقه على محمل الجدّ". والأمر مماثل بالنسبة للأطلسي.
موقف غريب كان من الطبيعي إثارة خشية جهات عديدة، من أن الإدارة بهذه السياسة، قدّمت هدية ثمينة إلى موسكو، المتطلعة إلى فرط الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي. وثمة من ذهب إلى حدّ اتهام ترامب أنه "يسعى لفرط الاتحاد الأوروبي". وما زاد من الريبة أن الحديث عن مصير التحالف مع الاتحاد، جاء في خضمّ الجدل الساخن والمفتوح حول العلاقة المشبوهة بين موسكو وترامب أثناء الحملة الانتخابية، وازدياد الضغوط لإحالة الملف إلى محقق خاص أو لجنة مستقلة لخطورة الوضع.
وأبدت أوساط عدة، خشيتها من أن "المركزية تستفحل في رسم السياسات وصياغة القرارات، وتتحكم بها وبصورة متزايدة حفنة من بطانة الرئيس وعلى رأسها، ستيف بانون، الذي بات يتمتع بموقع مهندس السياسات الخارجية كما الداخلية، والذي يحرص على تطعيم قرارات الرئيس بالنكهة القومية الشعبوية، التي تثير مخاوف قطاعات وجهات أميركية عدة، خصوصاً في موضوع الهجرة". وفي ظل طغيان هذه الحفنة، ازداد الهمس في واشنطن حول "تهميش" بعض الوزراء مثل وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، الذي لفت غيابه عن مناسبات وقرارات عدة تتعلق بصميم مهامه، ومنها قرار منع مواطني سبع دولة من دخول الولايات المتحدة.
أضحى التعويل الآن على أصحاب مواقع متقدمة، لتأدية دور "صمّام الأمان"، منهم وزير الدفاع جيمس ماتيس، ومستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي الجنرال هربرت مكماستر، الذي خلف الجنرال ماكيل فلين. مكماستر اعترض على استخدام عبارة "الإسلام الراديكالي" في الحديث عن الإرهاب، مشيراً في أول اجتماع له في بصفته الجديدة، إلى "أنني أرفض مصطلح الراديكالية الإسلامية الإرهابية الذي يثير غضب المسلمين وشركائنا في الحرب ضد الإرهاب". تماماً كما سبق وفعل الرئيس السابق باراك أوباما. هناك رهان على هذه العناصر لتؤدي دور المصحح والكابح لمركزية البيت الأبيض.