تصفية استعمار الجماليات.. نحو عالم حداثة التجاوز

25 اغسطس 2017
رافييل غوميز باروس/ كولومبيا
+ الخط -

شهدت بدايات الألفية الثالثة ولادة وانتشار حركة ثقافية - فنية - سياسية عالمية مشروعها الرئيسي "تصفية المنطق الاستعماري" في مختلف جوانب حياة المجتمعات غير الغربية.
أُطلق هذا المشروع في مؤتمر نظّمه عالم الاجتماع الفنزويلي إدغار لاندر في العام 1998 في كاراكاس، دعا إليه مجموعة من أساتذة بلدان أميركا الجنوبية من فروع علمية مختلفة؛ فلسفة وعلم اجتماع وأنثروبولوجيا وعلم دلالات ونقد أدبي .. إلخ.

في هذا المؤتمر التقت ثلاث شخصيات من أبرز شخصيات المؤتمر؛ أنيبال كيخانو (عالم اجتماع من البيرو) ووالتر مينيولو (عالم دلالات من الأرجنتين) وإنريكي دوسيل (فيلسوف من الأرجنتين)، وناقشوا لأول مرة نهجهم تجاه الإرث الاستعماري في أميركا اللاتينية، ونظرية مؤرخ وعالم الاجتماع الأميركي إيمانويل فالرشتاين القائلة بوجود نظام عالمي ذي ثلاثة مستويات؛ مستوى بلدان القلب، وهي البلدان الرأسمالية المسيطرة التي تستغل عمل بلدان الأطراف وموادها الأولية، ومستوى بلدان الأطراف التي تعتمد على بلدان القلب ومتخلفة صناعياً، ومستوى البلدان شبه الطرفية، وهذه تجمع بين صفات كلتا المرتبتين.

وتوصّلوا إلى أن منطق الاستعمار الثقافي لا يزال حاضراً في ثلاث ظواهر على الأقل؛ في النزعة العنصرية، والمركزية الأوروبية، وميول التمثل بالغرب. ووضع الثلاثة هذه الظواهر تحت ثلاثة أصناف؛ استعمار السلطة، واستعمار المعرفة، واستعمار الوجود.

هذه كانت بداية انطلاق ما ستعرف بعد ذلك بأنها أكثر جماعات التفكير النقدي نشاطاً في أميركا اللاتينية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ومثلتها شبكة مثقفين ضمّت عدة أجيال وفروع ثقافية، انطلقت من منظور تصفية الاستعمار ومنطقه في القانون والفن والسياسة والاقتصاد والأحاسيس والمدارك والمخيلة.

وركّزت في أبحاثها على علاقات السلطة التي زُرعت منذ العام 1492، أي مع غزوات لما يعرف الآن باسم أميركا الشمالية والجنوبية، وتضمّن هذا تمييزاً عنصرياً كان مع الحداثة الأوروبية أساس ما قام عليه اقتصاد رأسمالي. من هنا أمكن تمييز دراسات وأبحاث هذه الجماعة عن دراسات وأبحاث ما سمّيت "مرحلة مابعد-الاستعمار"، تلك التي هيمن عليها بشكل عام كتّاب قادمون من المستعمرات الإنكليزية والفرنسية القديمة في آسيا والشرق الأوسط وأقيانوسيا، الذين كان منظور التثاقف هو منطلق دفعهم، ويبدأ الاستعمار بالنسبة لهم بعد 300 سنة لاحقة.

أبرز جوانب نشاط هذه الجماعة كان في تحدّيها للمفاهيم الغربية الثلاثة: الحداثة ومابعد-الحداثة والحداثة البديلة. تحت عنوان "تصفية استعمار الجماليات". في البداية، تركّز النشاط على قضية مبادئ المعرفة (الإيبستمولوجيا)، والاقتصاد السياسي والنظرية السياسية. وفي العام 2003، قدّم الناشط والفنان الكولومبي آدولفو آلبان آشنتي تعبير "تصفية استعمار الجماليات" لأول مرة خلال المناقشات الجماعية.

وفي العام 2009، بدأت سولمى باليرمو من جامعة سالتا الوطنية في الأرجنتين تعدّ كتاباً موضوعه تصفية استعمار فلسفة علم الجمال، ونشرته في العام 2010. في الوقت نفسه كانت مجلة "استطلاعات عالم الفن" بإشراف بيدرو بابلو كوميز في بوغوتا الكولومبية تنشر مقالات مكرّسة للموضوع ذاته. وفي الإكوادور، ارتبط موضوع التصفية ببرنامج منح شهادة دكتوراه في مضمار دراسات أميركا اللاتينية الثقافية تحت إشراف كاثرين والش. وفي العام ذاته، عقد أول مؤتمر مع ورشة عمل ومعرض فني حمل عنوان "تصفية استعمار الجماليات".

هذه كانت البداية، وبعدها جاءت الجولة الثانية في أيار/ مايو 2011، بمعرض وورشة عمل أيضاً في جامعة دوك في فرجينيا الشمالية في الولايات المتحدة، شارك فيهما فريق بوغوتا ذاته، ولكن مع أعضاء جدد شرقيين، مثل الفنانة هونغ- آ ترانغ، وأستاذ وسائط الإعلام المرئية كوا- جوين هونغ، عززوا الحوار حول الموضوع مع شرقي آسيا.

ورافق ذلك في حزيران/ يونيو إنشاء "معهد تصفية الاستعمار العابر للقوميات" بمبادرة من ثلاثة من أعضاء الجماعة هم، آلانا لوكوارد، رونالدو فاسكيز، والتر مينيولو، وأصدر المعهد البيان الجماعي، أو المانفيستو بتعبيرهم، الذي شرح بعمق منطلقات وأهداف هذا التجمع الذي أخذ بالتوسع من ذلك الوقت. وفي ظل منتدياته وورش عمله ومطبوعاته ومشروعاته الفنية، يجري الرد على ما أصبح يعرف بالجانب المظلم للعولمة الإمبريالية، بدءاً من الوجه المظلم لما يسمى عصر النهضة، وصولاً إلى الوجه المظلم للحداثة.

وفي سياق ذلك بدأت الأوساط الثقافية تتعرف على نقد يسعى إلى تحرير المدارك ونزع المنطق الاستعماري عن الجماليات. وتشكلت أرضية ينطلق منها فنانون من مختلف أنحاء العالم نحو تحدي موروثات الحداثة الأوروبية (مزاعمُ كونيةِ وشمولية مفاهيمها ومقولاتها) وعودتها إلى التجسّد سواء في "جماليات" مابعد-الحداثة، أو الحداثة البديلة.

وهذه الأخيرة هي التي دخلت مع مطلع القرن الحالي ساحة الثقافة الغربية كآخر طبعة من طبعات التحديث والترميم الأوروبيين، ونظَّر لها الفرنسي نيكولا بورو، زاعماً أن مابعد-الحداثة أصبحت صيغة منتهية، وأن ما يبرز الآن هو "حداثة بديلة" تقوم العولمة بتشكيلها. ووفقاً لهذا المنظِّر، من المفترض انخراط الفنانين في هذا الإدراك المعولم الجديد عن طريق "ترجمة" قيم خلفياتهم الثقافية الخاصة بهم، وبهذا يكتسبون مشروعيتهم وقيمتهم في الدوائر العالمية. وما يعنيه بالترجمة هو التضحية بالهويات باسم معايير فنية معولمة.

تتحرّك حركة تصفية الجماليات من الاستعمار ومن منطقه في اتجاه مختلف جذرياً عن التوقعات الغربية، وتمكِّن جماليات خالية من المنطق الاستعماري من العودة إلى الوجود. فمثلاً، تردّ على حداثات الغرب بمصطلح "الحداثة المتجاوزة"، لهذا يبدأ بيان هذه الحركة بالقول: "يظهر في الزمن الراهن إلى حيّز الوجود عالم حداثة متجاوزة، يعيد تشكيل خمسة قرون مضت هيمن عليها المنطق الاستعماري، وعقابيله؛ الحداثة، ومابعد-الحداثة، والحداثة البديلة.

وإحدى علامات هذا التحوّل البارزة هي الإبداع من وفي العالم غير- الغربي، وتبعاته السياسية؛ الأفكار المستقلة وتصفية الاستعمار في كل جوانب حياتنا... والأهم تصفية المنطق الاستعماري في المعرفة والوجود، ورفض الميول الإمبريالية نحو اختلاق حالة التجانس العولمي ومحو الاختلافات، تحت زعم "عالمية" الممارسات الفنية بتعميم ما تسمّى "الحداثة البديلة"، ومعاقبة التنوّع الثمين وممكنات الإبداع الإنساني".

ويدعو البيان إلى التباين الثقافي، معزّزاً بذلك إعادة خلق الهويات التي هي إما متنكرٌ لها، أو معترفٌ بها مبدئياً، ولكن يخرسها في النهاية خطاب الحداثات الأوروبية بمختلف طبعاته.

في ضوء هذا يمكننا القول أن حركة تنقية الجماليات الفنية والأدبية، أو فلسفة الجمال بعامة، من الاستعمار ومنطقه، هي ممارسة تتحدّى وتقوّض هيمنة جماليات حداثة الاستعمار، وتبدأ من الوعي بأن هذه الهيمنة الاستعمارية لا تتضمن الهيمنة على ما هو اقتصادي وسياسي ومعرفي فقط، بل والهيمنة على الأحاسيس والمدركات أيضاً.

ومن هنا لا تتضمن هذه الممارسة إبداع أشكال فنية خارج مدار ما يسمى "القيم" و"المعايير" الشاملة (والمقصود بها قيم الغرب الاستعماري)، فقط، بل تأطير نقدٍ جذري لجماليات الحداثات الغربية. وبالتزامن مع هذا، يساهم هذا النقد في جعل تصفية استعمار الوعي مرئياً عبر الممارسات الجماهيرية؛ العروض الفنية، المسرحية والموسيقية والأدبية والشعرية والتشكيلية .. وبقية الفنون البصرية.

المساهمون