تشوهات النخبة .. من الأيديولوجيا إلى الشعبوية

12 مارس 2015
+ الخط -
في التاريخ الحديث، كانت التهمة الأساسية الموجهة للنخبة تهويمها البعيد عن الواقع الاجتماعي، وانفصالها عن "الجماهير" وتنظيرها السكولاستيكي الذي يدور في خيالها فقط، وكان هذا غالباً التفسير الأصح لصعود النزعات العنصرية الراديكالية، كما كان حال قوى اليسار في ألمانيا في الثلث الأول من القرن العشرين، عشية صعود النازية.
في السياق العربي، مرت النخبة بتحولات مهمة بعد نكبة 48 في فلسطين وظهور دولة الاستقلال، حيث تعاملت النخبة مع المجتمع كـ"جماهير"، وليس كمجتمع مواطنين مع صعود الأيديولوجيا وتداخلها ببنية دولة الاستقلال، وتميزت النخبة، هنا، بالشعاراتية، مع التأكيد على كونها تعبّر عن "تطلعات" الأمة، متبنية طروحات أيديولوجية سطحية، لا تعترف بالذات الجمعية، أي أنها كانت ذات خطاب استغلالي في الأساس، ولم يكن هذا السلوك عن وعي دائماً، في حين أن الرافضين لهذه الطروحات كانوا يقدمون نقداً، وهو في الحقيقة أقرب إلى التحقير منه إلى النقد، للمجتمع، استناداً إلى الأسطورة القائلة إن المجتمع القاصر هو علة التخثر التاريخي العربي، وعلى رأس هذا الفصيل يتربع الأديب أدونيس، ولا يزال.
مع ترسخ الأنظمة العربية في نهايات القرن، وانحلال الأيديولوجيا الرسمية، ليصبح النظام ورموزه هو الأيديولوجيا، انتقلت النخبة العربية إلى المستوى الكارثي، حيث تبنت خطاباً شعبوياً صرفاً!، ولعبت عوامل متعددة دوراً في هذا التحول، منها أن حلول الحاكم وزمرته كأيديولوجيا سمح للنخبة الموالية للنظام، والمتماهية معه، بالتعبير، أخيراً، عن حقيقته، فبعكس ما ظلت الأنظمة العربية تؤكده أنها الطليعة المتنورة في المجتمع غير المستعد للتحول الديمقراطي وبناء دولة المواطنين، أثبتت المحطات التاريخية المختلفة، منذ نصف قرن، أن أغلب رموز الأنظمة العربية، بعد بناء دولة الاستقلال، كانوا ذوي وعي قروي ريفي، بل وسحقوا إمكانيات استغلال الوعي المديني المتراكم تاريخياً في الحواضر العريقة، والحالة السورية مثال مهم في هذا السياق.
بالتوازي مع العامل الأول، كان دخول النخبة إلى فضاء الإعلام المرئي وشبكات التواصل الاجتماعي، على التوالي، ذا أثر مهم، حيث وفرت إمكانية إنتاج خطاب شعبوي ومنفلت بصورة أكبر من مؤسسات نشر الخطاب التقليدية، فوصلنا، عشية الربيع العربي، إلى وضع حضيضي حدا بسيناريست وكاتب معروف، مثل أسامة أنور عكاشة، إلى الانفلات والشوفينية وتبنّي نزعات تطهيرية في أثناء (أزمة) مباراة مصر والجزائر في كرة القدم في 2009، وكانت تلك الأزمة تمظهراً إضافياً لأزمة النظام السياسي العربي. أما مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية، فكانت ذات ديناميكيات أكثر تعقيداً، حيث التفاعل المباشر مع الكاتب/المسيس/المثقف بدون معيقات البعد المكاني ومستوى التثقيف أو عقد المواجهة الإنسانية التقليدية (وجهاً لوجه) تشكل ضغطاً نفسياً على منتج الخطاب، وتتلاقى، هنا، النزعات الإنسانية الطبيعية لتعظيم الأنا، ونيل إعجاب الآخرين مع الوجه السافر للنظام السياسي، لتنتج لنا كتّاباً
 ومسيسين شعبويين، سواء عن تقصد مبدئي، أو استجابة للنزعة الإنسانية المتأصلة.
مع انفجار الثورات العربية عام 2011، حصل انقطاع بسيط لهذه الشعبوية، مترجماً نفسه، إلى كيل المدائح والتقريظ لـ"الشعب الأبي" و"الشباب"، من دون الانخراط الفعلي في تفاعلات الثورة ميدانياً، ومن دون التورط في تنظير وتسييس ديمقراطي للقضايا، ومرحلة ما بعد رحيل رأس النظام ورموزه وإنتاج خطاب يتبنى المواطنة بوضوح، أي أنهم تبنوا الشعاراتية ونفاق المجتمع في تمظهر مقنع للشعبوية، وانتهى هذا الانقطاع، مع فشل قوى المعارضة في التمكن من السلطة والتوافق على مستقبل البلد والدولة (والحالة المصرية تصلح مثالاً نموذجياً في سياقنا هذا) فعاودت القواعد التقليدية للنظام، وحلفاؤه المكرسون، في الظهور وقيادة ثورة مضادة، وقاد رأس المال المسيطر على ماكينة الإعلام، والمتحالف مع النظام والمستفيد من سياسات الفساد والتكديح والإفقار التي اتبعها، في التمهيد لهذه الثورة المضادة، من خلال إنتاج خطاب يفوق سابقه بمراحل في شعبويته وانحطاطه الأخلاقي، مع انضمام قوى معارضة للنظام السابق في خضم (قمارها) مع القوة السياسية التي وصلت إلى الحكم، بعد الثورة في تدعيم هذا الخطاب وتبنيه، وتوجت هذه المرحلة بانتصار الثورة المضادة، وعودة رموز النظام من جديد.
وكما هو الحال بعد كل انتكاسة وارتداد سياسي، تحولت الشعبوية إلى "دين" النخبة السياسية والصحفيين، وجاوزت حدودها السابقة لتتجاوز الداخل إلى الخارج، وتمت عمليات تطبيق فعلي لنزعات التطهير والتمييز والتحقير لفصائل سياسية ومعارضين، وأضحى التنافس في تمثل أسوأ النزعات الجمعية، وإعادة إنتاجها هو طريق الترقي في جهاز الدولة والفضاء العام.
وهكذا، تحولت النخبة من الأيديولوجيا إلى الشعبوية خلال نصف قرن، في حين يناضل مثقفون طوال عقود لإنتاج خطاب ديمقراطي مواطني، ونظروا للثورة، بل وساهموا في صناعة يومياتها، وهؤلاء، بالذات، هم هدف رئيس للنخبة الشعبوية الآن، هدف شتائمهم وانفلاتهم، فهؤلاء المثقفون الديمقراطيون هم من يذكّروننا كل يوم بقبح الشعبوية وانحطاطها الأخلاقي وبـ"خيانة" النخبة الشعبوية دورها الوطني وغدرها بالمجتمع، في تمفصل تاريخي حاسم.


8AC1ED65-78A2-4712-AD9B-FBCD829DA394
أيمن نبيل

كاتب يمني، من مواليد 1991، يقيم في ألمانيا لدراسة الفيزياء النظرية. نشر عدة مقالات في السياسة والاجتماع والثقافة والفنون، في عدة صحف يمنية.