تشكيل المحاور واستنزاف المنطقة
تنحو منطقة الشرق الأوسط بخطى متسارعة باتجاه إعادة ترتيب الأدوار الإقليمية لدولها، بما في ذلك السعي إلى تكوين محاور وتكتلات تقف في مواجهة بعضها، وتحاول أن تحمي ذاتها، أو تحقق تقدما باتجاه خصومها. إذ يبدو أن زيادة الدور الإقليمي للدول قد أصبح من سمات المرحلة، في ظل تراجع السياسة الأميركية وارتباكها وضعفها. ما حمل دول المنطقة، ومناطق أخرى في العالم، على السعي إلى لعب دور إقليمي شبه مستقل عن السياسات الأميركية، بل ومختلف معها، أحياناً، يجعلها بمنأى عن العواصف التي تهب من حولها.
تبدى ذلك في مرحلة أولى عند اندلاع الربيع العربي، وسرعة التخلي الأميركي عن حلفائها التاريخيين، أمثال زين العابدين بن علي وحسني مبارك. وسيطرة الاتجاه الإسلامي، في ظل الضعف اللافت لحركات المعارضة الأخرى على مقاليد هذا الحراك في أغلب الدول العربية، بل ووصوله إلى السلطة في تونس ومصر، عبر صناديق الاقتراع، وبعد الهبات الشعبية. ما أدى إلى قيام ثورة مضادة، بدعم واضح من دول خليجية، خشيت من امتداد الربيع إليها، وسط الصمت والعجز الأميركيين عن اتخاذ القرارات المناسبة لحماية حلفائه. ونتيجة ذلك، انفضت عرى تحالف تاريخي كان قائما بين الإسلام السياسي، وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين، وهذه الدول. وتجلى ذلك في الدعم السخي وغير المحدود الذي قدم إلى نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وفي محاولات التأثير والتنازع على قوى المعارضة السورية وغيرها.
على أن الأحوال سارت بعكس ما تشتهي هذه السياسة، فقد برزت داعش، واعتبرتها أطراف ممثلاً للإسلام السني، في ظل تراجع قوى الإسلام المعتدل، نتيجة الضربات التي وجهت إليه، ووجدت لها حاضنة شعبية نتيجة السياسات المذهبية السائدة والفساد والاستبداد. ومن جهة أخرى، بدا واضحا تطور النفوذ الإيراني وتمدده، وانتشاره في العراق واليمن وسورية، ناهيك عن نفوذه الواضح في لبنان من خلال حزب الله.
نستطيع القول إن محورا قد تشكل بزعامة إيران، ويضم اليمن وسورية والعراق ولبنان، ويحظى بدعم روسي، وهو محور في طور الصعود والتقدم، وإن تكن بعض سياساته التي قد تكسبه بعض المواقع على الأرض مؤقتاً، إلا أنها قد تزيد من قائمة خصومه، ومن حالة الاصطفاف ضده، وتهدد باتساع النزاعات المذهبية والقبلية والطائفية في الأراضي التي يحاول الوقوف عليها. ومن اللافت أن حراك هذا المحور، ونتيجة قرب الوصول إلى الاتفاق على الملف النووي الإيراني بين طهران والغرب، بدأ يحظى ببعض الصمت، وأحيانا الموافقة أو التنازلات من الولايات المتحدة، يتمثل ذلك في الموقف الذي عبر عنه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، من بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، أو من التدخل العسكري المباشر في العراق، وكأن هنالك معادلة تشكلت، قوامها الاتفاق على الملف النووي في مقابل غض النظر عن الامتداد الإقليمي لهذا المحور، والاعتراف به لاعباً أساسياً في المنطقة.
في المقابل، بدأت ملامح تغيير في الظهور في السياسة الخليجية، والسعودية تحديداً، بعد وفاة الملك عبد الله، وبسرعة غير متوقعة، ولا معتادة عند انتقال مقاليد الحكم. إذ هنالك سعي لتحسين العلاقات السعودية التركية، ومد الخيوط القديمة مع باكستان، وإعادة الانفتاح على الإسلام السياسي المعتدل الذي لم يعد يشكل خطراً بعد الضربات التي طالته، أخيراً، في محاولة لإعادة استخدامه في الحرب على داعش، أو في مواجهة تنامي النفوذ الشيعي. ويترافق ذلك مع محاولات لإبقاء مصر ضمن هذا المحور، بعد حل العقبات التي تحول دون ذلك، وأبرزها الخلاف التركي المصري حول ضرورة إجراء مصالحة سياسية مع جماعة الإخوان المسلمين، وموقف مصر المتسق مع الموقف الروسي في سورية واليمن.
ويختلف هذا المحور مع الولايات المتحدة في الموقف من سورية، ويربط توسيع مشاركته بالحرب على داعش بتسليح أطياف من المعارضة السورية ودعمها، والاتفاق على رحيل الرئيس السوري من المشهد السياسي. كما أن له تحفظات ومخاوف واضحة من الاتفاق النووي، المزمع توقيعه مع إيران، ومن تنامي علاقات إيران مع الغرب، ومن سيطرة الحوثيين على اليمن، وآليات إدارة الصراع في العراق وتنامي النفوذ الإيراني فيه.
بوضوح، هما محوران تشكلا فعلاً على الأرض، أو هما في طور التشكيل النهائي، وبعيداً عن المفردات الدبلوماسية، نحن أمام محور شيعي مكتمل، يقابله محور سني قيد التشكيل. ربما تكون نقطة الاتفاق الوحيدة بينهما هي القضاء على داعش. ولكن، حتى هذه تحمل في داخلها بذور خلاف كبيرة حول الوسائل والأساليب، والأهم من يرث نفوذها وسيطرتها، ويرسم إعادة تشكيل المنطقة بعد سقوطها، ووفق أي معادلات.
قد يعتقد بعضهم أن في تبلور الأمور على هذا النحو قد تفتح نافذة للحوار بين المحورين، لمحاولة الاتفاق على القضايا الخلافية الكثيرة والمتراكمة. ولكن، هذا يعني، في الوقت نفسه، احتمال تأجيج الصراع الإقليمي، وتغذية الصراعات المحلية، وزيادة وتيرة الانقسام الطائفي والمذهبي، واستمرار استنزاف منطقتنا في حروبٍ ينهزم فيها الجميع، بل وتنفتح ثغرة كبرى ينفذ منها العدو الصهيوني ليغدو أحد الأطراف الفاعلة في صراعاتها الداخلية. ففي التجربة الفلسطينية المعاصرة، كان تضامن العرب واتفاقهم يحمي الثورة، وانشقاقاتهم ونزاعاتهم توفر المناخ اللازم للتآمر عليها وضربها، بل ولقيام العدو بالاجتياحات والحروب، بما فيها اجتياح لبنان 1982 الذي جاء في ظل ابتعاد مصر عن الوضع العربي.
ترى، هل من حق جيلنا وجيل الشباب أن يحلم، وأن يعمل على محور آخر، تركي إيراني عربي موحد، من شأنه أن يدفن، وإلى الأبد، كل الصراعات المذهبية، ويحقق استقلال المنطقة وقوتها ومنعتها عن القوى الكبرى الطامعة فينا، ويضمن حلاً عادلاً لكل مشكلاتها في سورية واليمن والعراق، ويعزز الاستقرار والأمن للبلاد والعباد، بل ويشكل خطوة كبرى في اتجاه القضية التي يزعم الجميع أنها قضيتهم الأولى.. فلسطين.