تحوّل حضور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، للمرة الأولى، مؤتمر ميونخ للأمن الذي يقام سنوياً في ألمانيا، إلى محاولات ترويج مستميتة لأحقية مصر في الحصول على دعم أوروبي، مالي ولوجيستي، متزايد، بحجة دعم جهود حكومته في استضافة اللاجئين العرب والأفارقة الذين ينوون الانتقال إلى أوروبا، والتصدي للهجرة غير الشرعية، استكمالاً للمناقشات الدائرة بين القاهرة والاتحاد الأوروبي حول هذا الملف، وأفكار المستشار النمساوي سيباستيان كورتس وعدد كبير من السياسيين اليمينيين، في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، حول توطين اللاجئين في مجتمعات صغيرة في مصر وتمويلها من الاتحاد الأوروبي تمهيداً لإعادتهم إلى بلادهم. وهذه الأفكار كانت "العربي الجديد" انفردت بنشر تفاصيلها في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول الماضي، ثم تبعها عدد كبير من الصحف العالمية.
وقال السيسي، في خطابه أمام المؤتمر، أمس السبت، إن "مصر تستضيف ملايين اللاجئين المندمجين في المجتمع المصري، وتحرص في الوقت نفسه على عدم المتاجرة بهذه القضية، وتقدم لهم الدولة جميع الخدمات، على الرغم من عدم حصولها على أي دعم خارجي"، مشيراً إلى أن وضع اللاجئين والنازحين على رأس أولوياته في رئاسة الاتحاد الأفريقي هذا العام. لكن المشكلة التي تجددت، خلال إجابة السيسي على أسئلة الحضور علناً في جلسة النقاش، وبعيداً عن وسائل الإعلام أيضاً، تتمثل في عدم اقتناع القادة والمراقبين الأوروبيين بالأرقام التي يتحدث عنها السيسي، وهي التي تقدم بها وزير الخارجية، سامح شكري، بالتفصيل في مذكرة إلى وزراء الخارجية الحاضرين في المؤتمر، تنفيذاً لتعليمات السيسي بإجراء إحصاء مسحي شامل للعرب والأفارقة الموجودين في مصر، سواء كانت لهم أنشطة مهنية أو عاطلين عن العمل، طالما كانت بحوزتهم رخصة إقامة يحصلون بواسطتها على خدمات تعليمية أو صحية أو مرفقية، وكذلك الخدمات المدنية والمساعدات القانونية الحكومية. وبحسب مصدر دبلوماسي مصري، فإن السيسي تحدث لعدد من المسؤولين الألمان قبل لقائه القصير بالمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، ظهر أمس، بضرورة أن يأخذوا في الاعتبار تقديم مصر خدمات كبيرة لأوروبا بنجاحها في السيطرة على سواحلها في العامين الأخيرين، والتي كانت مصدراً لنحو 60 في المائة من رحلات الهجرة غير الشرعية لأوروبا بين عامي 2010 و2015، وفق تقديرات أوروبية. ويعتبر السيسي ذلك أمراً يستحق تدعيم نظامه بمساعدات لوجيستية تُوجه لدعم قدرات الجيش والشرطة، وتوجيه رؤوس الأموال للاستثمار في مصر، خصوصاً في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، لإتاحة فرص عمل أكثر استدامة لرفع مستوى الطبقات الفقيرة، مع تخصيص نسبة من الوظائف للاجئين.
واحتلت مسألة زيادة فرص التوظيف مكانة بارزة في مناقشات السيسي مع عدد من رؤساء الشركات الألمانية والأوروبية، مساء أول من أمس، بحضور وزير الاقتصاد والطاقة الألماني بيتر ألتماير، حيث تحدّث السيسي عن توافر الأيدي العاملة منخفضة التكلفة في مصر، من المواطنين واللاجئين. لكن الأوروبيين ما زالوا يعتقدون أنه ليس عليهم "دفع فواتير إقامة أشخاص يساهمون إيجابياً في الناتج القومي المصري"، بحسب مصدر دبلوماسي أوروبي في القاهرة قال، لـ"العربي الجديد"، الأسبوع الماضي، إن "دول الاتحاد، بما في ذلك النمسا، ليست مقتنعة بأرقام تزعم بأن أصحاب الشركات والمطاعم السوريين واليمنيين المقيمين في مصر، الذين يضخون أموالاً تفيد الاقتصاد المصري، لاجئون. كما أن لدى الدول الأوروبية تقارير من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تثبت وجود تلاعبات من قبل اللاجئين والحكومة المصرية، سوياً، بشأن تطبيق معايير اللجوء على آلاف النازحين الذين لا يستحقون الدعم في الواقع".
وحصلت "العربي الجديد" على أحدث إحصائية بشأن عدد اللاجئين المعتمدين الموجودين في مصر وأماكن تركّزهم، وفقاً للمفوضية السامية التابعة للأمم المتحدة، والصادرة بنهاية عام 2018. وتوضح الإحصائية أن عدد اللاجئين (الذين استوفوا المعايير) المقيمين في مصر يبلغون 245 ألف لاجئ تقريباً، منهم 194 ألف طالب لجوء، و51 ألف نازح، أكثر من نصفهم سوريون، بواقع 133 ألفاً تقريباً، أي بنسبة 54 في المائة. ووفقاً للإحصائية، فإن اللاجئين يوجدون أساساً في محافظات القاهرة (87 ألفاً) والجيزة (80 ألفاً) والإسكندرية (24 ألفاً) والقليوبية (18 ألفاً) والشرقية (11 ألفاً) ودمياط (9 آلاف) والدقهلية (4 آلاف) والغربية (ألف لاجئ)، بينما ينخفض العدد في محافظات الصعيد والقناة عن الألف بكثير. وذكرت الإحصائية أن عام 2018 شهد تسجيل 31 ألف لاجئ جديد في مصر، نسبة السوريين منهم 29 في المائة، ما يشير إلى انخفاض مستمر في نسبة نزوح السوريين إلى مصر، مقابل دول أخرى كاليمن والسودان وإثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان.
ويحاول السيسي بالضغط المستمر، من خلال مجموعات اليمين السياسي في ألمانيا وإيطاليا، عدم ربط المساعدات الأوروبية التي يحاول المستشار النمساوي الترويج لدفعها، بهذا العدد الهزيل من اللاجئين، والذي يجعل مصر من أقل دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا استضافة للاجئين الذين تُعنى الأمم المتحدة برعايتهم، خلف تركيا (أكثر من 3 ملايين) والسودان (أكثر من مليونين) ولبنان (أكثر من مليون) والأردن (700 ألف تقريباً) وليبيا (أكثر من نصف مليون لاجئ). وأوضح المصدر الدبلوماسي الأوروبي أن علاقة الخارجية المصرية بالمفوضية السامية للاجئين ما زالت متوترة، بسبب رفض الأخيرة إعادة تقييم شروط التسجيل لديها، والأخذ في الاعتبار ما وصفته بـ"سياسة مصر لدمج اللاجئين في المجتمع، وإفادتهم بمزايا صحية وتعليمية تقدمها الدولة لعموم المواطنين"، وذلك بهدف زيادة المخصصات المالية من المفوضية لمصر، والتي كانت تبلغ في عام 2017 نحو 72 مليون دولار لرعاية اللاجئين، تم تخصيص 55 مليون دولار منها للرعاية الصحية والتعليم فقط، ثم زادت في 2018 إلى 76 مليون دولار فقط. وكانت مصادر مصرية كشفت، لـ"العربي الجديد"، في سبتمبر/أيلول الماضي، أنه في مقابل تحمّس قوى أوروبية، كإيطاليا والنمسا، لمنح مصر تلك الحوافز، التي ربما تتجاوز قيمتها مليار يورو، فإن هناك قوى أخرى ترى أن الحوافز لن تنعكس بالإيجاب على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للاجئين في مصر أو المواطنين المصريين الأكثر فقراً، الذين كانوا يمثلون أكثر من نصف عدد المهاجرين غير الشرعيين لإيطاليا تحديداً.
والاتفاق الذي يروّج له المستشار النمساوي مع مصر أشبه بالذي أبرمه الاتحاد الأوروبي مع تركيا لرعاية اللاجئين في عام 2016، والذي اعتبرت ألمانيا أنه نجح في مكافحة أعمال التهريب المميتة للاجئين عبر بحر إيجة، مع تحسين أوضاع اللاجئين السوريين، وتقليل عدد المتسرب منهم إلى أوروبا. وتلزم الاتفاقية تركيا باستقبال كل لاجئ وصل منذ 20 مارس/آذار 2016 إلى اليونان، وفي المقابل يلتزم الاتحاد باستقبال لاجئ سوري شرعي بدلاً عن كل لاجئ تتم إعادته إلى تركيا، وتمويل مساعدات للاجئين الذين يعيشون فيها. لكن الاتفاقية تلقى انتقادات حقوقية تزعم أنها تسببت في احتجاز آلاف المهاجرين في الجزر اليونانية في ظروف سيئة ومتوترة، فضلاً عن تهديد تركيا مراراً بإلغائها بسبب عدم تلقيها مبلغاً قدره 6 مليارات دولار من الاتحاد الأوروبي، إذ تزعم أوروبا أنها سددت نصف المبلغ، فيما تقول أنقرة إنها لم تتلق أكثر من ملياري دولار.