يبدأ العام الجديد في تركيا، مع أجندة سياسية مثقلة، تتصدّرها عملية التسوية التي تقودها الحكومة التركيّة مع حزب العمال الكردستاني، إذ من المفترض أن تبدأ المفاوضات بين الطرفين، خلال الأسبوع الحالي، لإنهاء أكثر من ثلاثين عاماً من القتال. وأودى القتال بحياة أكثر من 40 ألف مواطن تركي، واستهلك أكثر من 435 مليار دولار من الخزينة التركية، خلال الفترة الممتدة منذ عام 1984 وحتى الآن، وفق ما أورده وزير الاقتصاد التركي، محمد شيمشك، أثناء مناقشة ميزانية 2015 في البرلمان.
وتبدي حكومة "العدالة والتنمية"، عبر الحوار المكثّف غير المباشر والمستمرّ منذ عامين، عبر مدير المخابرات التركية حاقان فيدان، مع زعيم العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، نية واضحة لتسوية القضيّة الكرديّة وإنهاء النزاع المسلح. وعلى الرغم من مزاج التفاؤل الذي يلفّ المسألة الآن من إمكانيّة التوصّل إلى حلّ نهائي بعد الاتفاق على خارطة طريق بين الطرفين، لكنّ عوامل كثيرة قد تفجّر النزاع المسلح مرة أخرى.
وتبدو الحركة القوميّة الكرديّة في تركيا، ممثلة في العمال الكردستاني، مستعجلة لإنهاء القضية قبل الانتخابات البرلمانّية المقبلة، خوفاً من نكث العدالة والتنمية لوعوده، وعودته إلى الحل الأمني وسياسة "الإنهاك والمماطلة في الدخول في المفاوضات للحصول على مكاسب أكبر". وبينما يهدد العمال الكردستاني بالعودة إلى النزاع المسلح، في حال لم يتم إقرار إصلاحات تشريعية تتيح لمقاتليه العودة إلى الحياة السياسيّة، لا تبدو الحكومة التركيّة معنيّة إلا بحملتها الانتخابيّة في الانتخابات البرلمانية المقبلة في شهر يونيو/حزيران المقبل. وتسعى عبر هذه الانتخابات إلى الحصول على أكثر من خمسين في المائة من المقاعد، لتمرير تعديلات دستورية تتيح تحولها إلى النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي، وبالتالي لن تقبل أن يعكّر صفو الحملة الانتخابيّة أيّ جنازات عسكريّة أو اشتباكات بين الطرفين.
وفي حين استغرقت عملية البدء بالتسوية أكثر من 28 عاماً، قبل البدء بالحوار، يوضح المؤرّخ التركي المعروف، ريحا جامور أوغلو، أنّ لذلك "علاقة بتاريخ الدولة المركزيّة التركيّة، سواء في عهد السلطنة أو الجمهوريّة، ولذلك كان لا بدّ من أن تتأكد أنقرة من حجم القوة التدميريّة التي يمتلكها أولئك المتمردون". وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، يمكن تقسيم التعامل التركي مع "متمردي" العمال الكردستاني إلى ثلاث مراحل: الأولى مرحلة تقييم التهديد، وهي المرحلة التي كان يوصف فيها حزب العمال الكردستاني بأنه "حفنة من اللصوص"، وتمثلها استجابة رئيس الوزراء التركي حينها، توركت أوزال. وتمكّنت الدولة التركية، التي رأت فيهم حينها مجموعة هامشيّة متمرّدة، من القضاء على المئات منها.
وتُعد المرحلة الثانية هي ردّ التهديد، وتمثلت في حملة الجيش التركي الأكثر دمويّة بعد عام 1992، حين وجهت رئيسة الوزراء تانسو تشيلر، أوامر صارمة في عام 1993، إلى الجيش والشرطة لإظهار جبروت قوات الدولة التركية، ورافقت تلك الحملة خسارات عالية في الأرواح، انتهت بإلقاء القبض على زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان عام 1999، بمساعدة من وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة، ولكن هذا لم يحلّ القضيّة.
وبدأت المرحلة الثالثة مع تأكيد رئيس الأركان التركي (حكومة رجب طيب أردوغان)، الجنرال ايلكر باشبوغ، عام 2008، أنّه كان من المستحيل إنهاء المشكلة الكرديّة عبر الحلّ الأمني، ليقرّر مجلس الأمن القومي إقامة حوار مع حزب العمال الكردستاني، في محاولة للخروج من الأزمة. وبعد جولة حوار فاشلة برعاية طرف ثالث، والمعروفة باسم عملية أوسلو، في عامي 2009-2010، أصدر أردوغان تعليماته لرئيس المخابرات التركية حاقان فيدان، بالاتصال المباشر مع زعيم العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، الذي يقضي حكماً بالسجن المؤبد في جزيرة إمرالي جنوب إسطنبول، لتبدأ بعد حوار استمرّ أكثر من سنتين، بين عامي 2012-2014، عملية التفاوض المباشر خلال هذا الأسبوع، بحسب تصريحات الرئيس المشارك لحزب "الشعوب الديمقراطي" في موسكو، صلاح الدين دميرتاش.
وتواجه حكومة أحمد داود أوغلو، مرحلة تكاد تكون الأكثر حرجاً في تاريخ حكم "العدالة والتنمية"، الذي يمتدّ لأكثر من عقد. وفي وقت يجب أن تدار فيه حملة انتخابيّة ضخمة للحصول على الخمسين في المائة من الأصوات، على الحكومة أيضاً أن تدير عملية التفاوض بكلّ الألغام التي تحتويها بعناية بالغة، قد تجعلها أداة أخرى للحملة الانتخابيّة.