تسع سنوات من الثورة: تونس تنتظر نهاية أوجاعها

17 ديسمبر 2019
لا يتوقف الحراك المطلبي في شوارع تونس (ياسين قايدي/الأناضول)
+ الخط -
في شوارع ولاية سيدي بوزيد التي انطلقت منها ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول قبل تسع سنوات من اليوم، لم يتغيّر الكثير بالنسبة للمواطنين الذين ما زالوا يعيشون التهميش وغياب فرص العمل ومشاكل اجتماعية واقتصادية لا تنتهي. حال مهد الثورة المتردي والاحتقان الحاصل لا يبشران بخير، ولعل الأحداث الأليمة والمواجهات التي شهدتها منطقة جلمة في الولاية نفسها، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد انتحار الشاب عبد الوهاب الحبلاني بسبب الحرمان، خير دليل على الوضع الخطير الذي لا تزال تعانيه الولاية وغيرها من المناطق التونسية، والتي تنتظر حلولاً جذرية من السلطة، خصوصاً مع الأمل الذي أحياه وصول قيس سعيّد إلى الرئاسة بشعارات تحاكي طموحات وآمال المواطنين والشباب خصوصاً.
وعلى الرغم من هذه الصورة القاتمة، فإن النَفَس الثوري لا يزال موجوداً، وينتظر تحركاً من السلطة لتحقيق تطلعات الشباب التي ثاروا من أجلها ضد نظام زين العابدين بن علي.

قلق من المسار
جاء بيان محامي سيدي بوزيد أمس الإثنين بمناسبة استعداد الولاية لإحياء الذكرى التاسعة لثورة 17 ديسمبر، ليعبّر عن صورة الوضع القائم، مع تأكيدهم قلقهم العميق "مما شهده المسار الثوري من انتكاسة بفعل تغلغل لوبيات الفساد ورجوع قوى الردة للمشهد العام". وإذ أكد المحامون ''تمسكهم بالمسار الثوري كطريق أوحد لتحقيق أهداف الثورة الحقيقية''، طالبوا ''باعتماد تاريخ 17 ديسمبر يوماً وطنياً للاحتفاء بثورة الحرية والكرامة تفعيلاً لتوطئة دستور الجمهورية الثانية 2014".
وناشد محامو سيدي بوزيد "كل القوى الحية في هذا الوطن بالتصدي لكل أشكال الالتفاف على ثورة الكادحين والمستضعفين، وإفشال كل مخطّطات لوبيات التهريب والإرهاب والاقتصاد الموازي واستنزاف ثروات البلاد وتنفيذ أجندات ما وراء البحار". وأعلنوا أن "الثورة مستمرة وتيارها الجارف سيلفظ كل الشوائب التي علقت بها كما لفظ من قبلها عصابة السراق ومصاصي دماء الشعب".

هذا الوضع يتحدث عنه الشاب كمال السليماني من سيدي بوزيد لـ"العربي الجديد"، مشيراً إلى أن إحياء الثورة في محافظته هذا العام سيتم وسط احتقان غير مسبوق تعيشه المحافظة منذ أشهر جراء تفشي البطالة والفقر، خصوصاً بعد الأحداث الأليمة والمواجهات غير المسبوقة مع قوات الأمن التي عرفتها منطقة جلمة، في المحافظة نفسها، إثر انتحار الشاب الحبلاني.
ويقول السليماني: "منذ 9 أعوام وأنا أنتظر عملاً يضمن لي كرامتي، ولكن بعد مضي كل هذه السنين بدأ اليأس يسيطر عليّ، فأنا اليوم أبلغ من العمر 45 سنة وأعيش على منحة العائلات المعوزة التي تحصل عليها والدتي"، مضيفاً "عملت ضمن عمال الحظائر (من يعملون ضمن عقود محددة المدة) وعلى الآلية 16 (أحد الحلول الوقتية لمعالجة أزمة العاطلين) وأخبروني أن ملفي ضاع... وفي كل مرة يتم تقديم أعذار واهية قبل أن يتم التخلي عن خدماتي نهائياً". ويؤكد أن "الوضع لم يتغير كثيراً في سيدي بوزيد وأن بصيص الأمل الذي كان لدى أغلب الشباب يكاد يتلاشى، فمعظم الحكومات المتعاقبة لم تقدّم شيئاً للمنطقة ولم تحسّن أي شيء فلا تنمية ولا مشاريع ولا أمل".

حديث السليماني يؤكد أن هناك حالة إحباط، ولكن الأمل لم يُفقد نهائياً، خصوصاً بعد الإشارات المهمة التي عكستها نتائج الانتخابات الأخيرة والتي أوصلت قيس سعيّد إلى رئاسة البلاد والآمال التي أحياها في صفوف المهمشين والمناطق المنسية.

حلول مطلوبة
يرى الكاتب العام (الأمين العام) لاتحاد الشغل في سيدي بوزيد، لزهر القمودي، أنّ تونس تمر بمرحلة جديدة من الانتقال الديمقراطي في انتظار حكومة جديدة، مؤكداً في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه بعد تسعة أعوام من الثورة ينبغي إيجاد الحلول وتقديم بدائل، مضيفاً أنهم يعيشون في سيدي بوزيد على وقع إحياء ذكرى الثورة ولكن هذه الاحتفالات ممزوجة بالتطلعات، خصوصاً بعد الانتخابات، وهم يؤمنون بنتائج الصندوق إلا أنه لا بد من وضع البرامج وتقديم الحلول.

ويوضح القمودي أن المأمول هو أن تتلقى الحكومة الجديدة الرسالة التي لم تفهمها الحكومات السابقة، فالثورة قامت احتجاجاً على الأوضاع السيئة ومن أجل تقديم الحلول، ولهذا ثار الشباب والأهالي ضد النظام التنموي الفاشل. ويلفت إلى انتحار الشاب الحبلاني في جلمة بسبب الحرمان، ليحذر من أن الظروف الصعبة والاحتقان الحاصل لا يبشران بخير، فخلال السنوات الأخيرة تعمّقت الفوارق الاجتماعية واتسعت الهوّة بين الطبقات، وفي المقابل هناك انتشار للفساد ورجال أعمال يتهربون من دفع الضرائب، وبالتالي فسيدي بوزيد في حاجة إلى رؤيا جديدة وحلول واقعية، مؤكداً أن اتحاد الشغل في سيدي بوزيد ينتظر تشكيل الحكومة لعقد هيئة إدارية مناطقية ومخاطبة الحكومة التي ستتقلد الحكم لإبلاغها بمشاكل المنطقة.


ومنذ تسع سنوات يطالب أهالي سيدي بوزيد بالاعتراف الوطني بالأحقية التاريخية للمنطقة التي تغافل عنها الجميع. ويؤكد القمودي أن المطالبة بأن يكون تاريخ 17 ديسمبر يوم عيد وطني وعطلة رسمية هو مطلب قديم متجدد بدأ منذ انطلاق الثورة باعتبار أن سيدي بوزيد مثّلت مهد الثورة التونسية، وعلى الرغم من الحراك الذي عرفته العديد من المناطق فقد كانت شرارة الثورة من سيدي بوزيد بعد انتحار محمد البوعزيزي، وبالتالي فهناك أحقية تاريخية ونضالية لجعل هذا التاريخ تاريخ الثورة لأن الثورات تعرف ببداياتها، وفق قوله. ويضيف أن "أول شهيد سقط بالرصاص الحي كان في منزل بوزيان من المحافظة ثم شهداء الرقاب وتالة والقصرين"، مشيراً إلى أن "ديسمبر هو تاريخ العيد الوطني لانطلاق الثورة وشهر يناير هو شهر النصر أيضاً، فقد كان شهراً عظيماً للثورة توج بفرار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وسقوط رأس النظام".

ويشير القمودي إلى أن سيدي بوزيد تحيي ذكرى الثورة على الرغم من الوضع المتدهور والشعور باليأس وفقدان الأهالي الثقة في الأحزاب والبرلمان، فالاستياء كبير ولكن الذكرى هي دائماً للعبرة وللاستعداد لما هو آتٍ، فالمسار الثوري لا يزال متواصلاً وانتفاضة جلمة خير دليل على أن النَفَس الثوري قائم، محذراً من أنه في حال لم تُقدّم الحكومة المقبلة حلولاً جذرية فإن الانفجار قد يندلع مجدداً في أي مدينة تونسية تعيش التهميش.
ويرى أن تونس غنمت الحرية ولكن الشعب يريد اليوم تحقيق مكاسب أخرى اقتصادية واجتماعية، منها تحسين الأوضاع المعيشية والحد من الفوارق والتحكّم في الثروات الوطنية، لافتاً إلى أنه على الرغم من المنتوج الوفير فإن البلاد تعيش أزمة خانقة ولذلك لا بد من حلول جذرية، مؤكداً أن الوضع الإقليمي متغيّر والتجربة التونسية هي بمثابة المقياس لمدى نجاح الثورات العربية، ولذلك لا بد من المحافظة على نجاح التجربة والاستعداد الجيد للمرحلة المقبلة.

عودة لشعار الشعب
اللافت في إحياء ذكرى انطلاق شرارة الثورة هذا العام، هو أنها تستعيد شعارها الأصلي الذي صدح به التونسيون في كل ركن من أركان البلاد قبل تسع سنوات، "الشعب يريد"، وكان شعاراً جدده قيس سعيّد في حملته الانتخابية وقاده إلى قصر قرطاج، وهو المواطن العادي البسيط الذي جاء من سياق شعبي خارج عن المألوف الحزبي والمربع الانتخابي التقليدي، واستطاع أن يجدد الآمال في صفوف الشباب خصوصاً والمناطق المحرومة، وهو ما يجعل من مسؤوليته مضاعفة ويرفع من سقف التوقعات المعلّقة عليه. غير أنه يصطدم بحقيقة دستورية وواقع سياسي معقّد، ويبدو أنه يلوذ بالصمت للتفكير في إحداث فارق حقيقي، يقول المقربون منه إنه قد يكون منطلقاً لتغيير البناء السياسي برمته، باقتراح بدائل جديدة تعيد للناس في مدنهم زمام المبادرة وتمنحهم فرصة المراقبة المستمرة لحكامهم والمشاركة في صنع قرار من خلال هرم مقلوب يبدأ بتشكيل السلطة محلياً فمناطقياً ثم وطنياً. بينما يرى منافسوه أنها مجرد أفكار وأحلام غير قابلة للتحقيق في ظل دستور واضح يقوم على النظام البرلماني وغير قابل للتغيير على الأقل في هذه المرحلة، من دون اعتبار أن نتائج هذه الأفكار غير مضمونة وهي غير واضحة أساساً.

وينتظر التونسيون أن يتحدث سعيّد عن مشروعه ويخرج عن صمته الذي طال نسبياً ويخاطب التونسيين بصراحة، ويبرز موقفه مما يحدث من تلكؤ في تشكيل الحكومة وفي النزاعات الحزبية المتواصلة ومن حالة التوتر التي يعيشها البرلمان.

ونبّه الأمين العام لـ"التيار الديمقراطي"، محمد عبوّ، في ندوة يوم الأحد الماضي نظّمها حزبه حول "الحقوق الفردية والجماعية، جدل الثروة والثورة"، من "أن الثورة لم تنعكس على الأوضاع الاجتماعية للشعب"، محذراً من "تواصل الوضع على ما هو عليه وتواصل حالة الفوضى التي شهدتها البلاد خلال السنوات الخمس الأخيرة"، قائلاً في التصريحات التي نقلتها وكالة الأنباء التونسية إن ذلك "سيهدد، ليس فقط المسار الثوري، بل كذلك المسار الديمقراطي، لأن الديمقراطية التي لا تتطور إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للتونسيين، ستصبح مصدر إزعاج وقد تضمحلّ يوماً ما، بتقبّل المواطن فكرة الاستبداد واستسلامه لها كبديل عن ديمقراطية لم توفّر له الغذاء والمسكن وضروريات الحياة". واعتبر عبّو أن "تونس قابلة للإصلاح، ليس بمجرّد إسداء النصيحة، بل بقوانين واضحة تُطبَّق على الجميع وبتوفّر إرادة سياسية ودولة قادرة على فرض قوانينها وسياساتها وإصلاحاتها، فضلاً عن القطع النهائي مع التعامل مع الحكم كوسيلة للإفلات من العقاب وحماية الأقارب وأبناء أحزابهم الفاسدين".

وعلى الرغم من الوضع الصعب القائم، إلا أن التونسيين أثبتوا على مدار السنوات الماضية أنهم ماضون في نسج ثورتهم واستكمال بنائها على الرغم من كل هذه الصعوبات، متمسكين في كل استحقاق بالتداول السلمي على السلطة واللجوء إلى الصندوق لحسم خلافاتهم، ولكن الأمر موكول إلى الحكام لتغيير الأوضاع الاجتماعية على الرغم من المحيط المتوتر غير الملائم لتطوير أسواق العمالة والمبادلات الاقتصادية والتجارية وتطوير الاستثمارات، ولذلك فعلى الحكومة المنتظرة أن تكون حكومة خلّاقة ولا تكتفي بإدارة الشأن اليوميّ وأن تستنبط حلولاً وبدائل جديدة قادرة على إحياء جذوة الأمل في صفوف الشبان والمستثمرين وخلق مناخ متيح لذلك.