بالتزامن مع إحياء بلاده الذكرى التاسعة لانطلاق مشروع إنشاء سدّ النهضة (2 إبريل/نيسان 2011)، أكد رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، في خطاب له، نيّة بلاده البدء في ملء السد في موسم الأمطار المقبل، ليكون هذا تصريحه الأول في هذا السياق، منذ إجهاض مسار المفاوضات مع مصر والسودان برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي حول قواعد الملء والتشغيل نهاية فبراير/شباط الماضي. إذ كانت إثيوبيا من قبل تكتفي بتصريحات على مستوى وزيري الخارجية والري عن نيّة بلدهما ملء السدّ للمرة الأولى في شهر يوليو/تموز المقبل، الذي تبدأ فيه الأمطار على هضبة الحبشة، بالمخالفة لوجهة النظر المصرية، التي تتمسك بوضع قواعد صارمة للملء والتشغيل قبل البدء في الملء، والذي سيترتب عليه تضرر حصة مصر من المياه.
ولم تحي إثيوبيا هذا العام ذكرى بدء المشروع باحتفالات، كما اعتادت في السنوات السابقة، لمنع انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، واستعاضت عن ذلك بإفراد مساحات للدعاية في وسائل الإعلام المختلفة باللغات المحلية والإنكليزية، للترويج للموقف الرسمي المتعهد بالمضي قدماً في إنجاز مشروع السدّ، وإعلان أنّ نسبة إنجاز المشروع حتى الآن تجاوزت 72 في المائة، وأنّ الملء الأول لخزان السدّ سيتم بالتوازي مع إكمال عناصر البناء.
يأتي هذا بالتوازي مع تنظيم الجاليات الإثيوبية في أوروبا فعاليات عدة لدعم إنشاء السدّ مالياً، تحت إشراف تنسيقي من بعثة إثيوبيا لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل، والتي أبلغت مصادر دبلوماسية مصرية "العربي الجديد" في وقت سابق، بأنها شكّلت فريقاً من الدبلوماسيين، عقد اجتماعات مطولة مع عدد من الوفود الأوروبية الدائمة لدى الاتحاد الأوروبي. وركز الفريق الإثيوبي على 3 نقاط أساسية هي: رفض أديس أبابا لتدويل القضية وتدخل الوسطاء "غير المعنيين" كالولايات المتحدة لفرض حلول بعينها، واستحقاق إثيوبيا تاريخياً وتنموياً واقتصادياً بالاستفادة بمواردها المائية بحجة أنّ مصر هي الدولة الأكثر استفادة من مياه النيل على مدار التاريخ، والزعم بأنّ الاتفاق الثلاثي بين مصر وإثيوبيا والسودان يعتبر خروجاً على الاتفاق الإطاري لدول حوض النيل الموقع في عنتيبي عام 2010.
وتتواصل الجهود الدبلوماسية من قبل إثيوبيا في الفترة الحالية، بالترويج لسلامة موقفها وتعرضها للغبن في المفاوضات الأخيرة التي دارت في واشنطن، مع التركيز بين فترة وأخرى على بعض الأمور المختلفة، بقصد تشتيت الجهود المصرية المقابلة التي تبذل في المضمار الدبلوماسي ذاته.
وبحسب مصادر مصرية مطلعة، فإنّ أحدث النقاط التي يركز عليها الإثيوبيون هي أنّ "مصر ترفض اللجوء للوسطاء ومسهلي التفاوض المقترحين من الدول الأفريقية، على الرغم من أنها كانت تترأس الاتحاد الأفريقي العام الماضي"، قاصدين بذلك التلميح لعقد صفقة سرية بين القاهرة وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتقويض الخطط التنموية الإثيوبية.
أمّا النقطة الثانية التي يركز عليها الدبلوماسيون الإثيوبيون حالياً في لقاءاتهم بالأوروبيين، هي أنّ "بلادهم لم تكن ملزمة بالدخول في مسار التفاوض من الأساس، وأنه كان من حقها وفق قواعد القانون الدولي، إنشاء السدّ والاكتفاء بإخطار مصر والسودان بقواعد الملء والتشغيل التي تضعها هي، طالما أنها ملتزمة بعدم الإضرار بالدولتين، لكنها وبسبب رغبتها في تعظيم الاستفادة من المشروع، وجعله منصة للتعاون بين دول حوض النيل، وافقت على توقيع اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015".
وبعد 9 سنوات من البدء في إنشاء السدّ، وهو الحدث الذي اعتبره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من آثار ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، عندما قال في أكتوبر/تشرين الأول الماضي: "لولا أن مصر كشفت ظهرها وعرّت كتفها (آنذاك) لكنا قادرين على التوصل لاتفاق وشروط واضحة لإنشاء هذا السدّ، تحمي حقوق مصر"، تدفع مصر ثمن سلسلة من الأخطاء السياسية -قبل الفنيّة- التي تعترف بها المصادر الدبلوماسية والحكومية بالقاهرة. وعلى رأس هذه الأخطاء بطبيعة الحال، توقيع السيسي على اتفاق المبادئ الذي اعترف أولاً بحقّ إثيوبيا في بناء السدّ، الأمر الذي لم تكن مصر قد بادرت به من قبل، وأقرّ ثانياً بحقها السيادي في إدارته، ولم يقرر أي جزاء قانوني دولي عليها حال مخالفة الاتفاقات السابق توقيعها في إطار الإدارة المشتركة لمياه النيل وبصفة خاصة عامي 1902 و1993.
وعلى الرغم من أنّ لجنة الخبراء الدولية، وكذا تقريري المكتبين الاستشاريين اللذين تمت الاستعانة بهما في المفاوضات السابقة، كانت قد أكدت الآثار السلبية الاجتماعية والاقتصادية التي ستلحق بمصر جراء المشروع، إلا أنّ اتفاق المبادئ الذي أصرّ السيسي على توقيعه، ويعتبره من إنجازاته، يوفر حماية للتصرفات الإثيوبية الحالية.
فالمبدأ الخامس من الاتفاق، والذي يتحدّث عن التعاون في الملء الأول وإدارة السدّ، يكتفي بالنصّ على التشارك في وضع "الخطوط الإرشادية والقواعد"، من دون تفاصيل التشغيل، ويجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت لآخر، بشرط "إخطار" وليس أخذ رأي أو استئذان مصر والسودان.
كما أنّ المبدأ العاشر الذي يفتح باب الوساطة الدولية الملزمة، يتطلب أيضاً "اتفاق الدول الثلاث على ذلك"، وهو ما لا يتوفر رسمياً في الوضع الحالي، فالسودان الذي يبدو من الناحيتين الفنية والاقتصادية مستفيدا من بناء السدّ، يجدد ثقته في إمكانية التغلّب على الخلافات باستمرار المفاوضات. أمّا إثيوبيا، فهي ترفض اللجوء مرة أخرى إلى الرقابة أو الوساطة السياسية، بحجة أنّ القضية فنية فقط، ليظهر التناقض بينهما وبين الموقف المصري الأخير الذي يخشى استمرار إهدار الوقت من دون اتفاق.
وتحركت مصر متأخرة على الصعيدين الدبلوماسي والإعلامي، فالاجتماعات التي عقدها مسؤولون مصريون مع سفراء الدول التي تشارك شركاتها في مشروعات السدّ، بدأت فقط في الخريف الماضي، ولم تحقق أي نجاح بسبب زعم حكومات فرنسا والصين وألمانيا وإيطاليا أنها لا تستطيع التحكم في توجهات مستثمريها، على الرغم من أنّ الواقع يؤكد ضرورة حصول المستثمرين على ضوء أخضر ودعم حكومي للاستثمار، وفق خطط المساعدة التنموية الأوروبية والصينية لشرق ووسط أفريقيا.
كما كان التحرّك المصري على صعيد الحشد في الأوساط السياسية الأوروبية والدوائر الحزبية الأميركية متأخراً كذلك، قياساً بالتحرّك الإثيوبي الذي كان خفياً، لكنه يؤتي ثماره بين الحين والآخر، سواء بالتأثير على اتجاهات الخارجية الأميركية، أو توجيه الإعلام الأميركي ضدّ مشروع الرئيس دونالد ترامب ووزير خزانته ستيفن منوتشين المؤيد لحقّ مصر في ضرورة الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل قبل البدء في الملء الأول.
وفي شهر مارس/آذار الماضي فقط، استعانت السفارة المصرية في واشنطن بمؤسسة علاقات عامة سبق أن تعاقدت معها المخابرات العامة أكثر من مرة، لعقد فعاليات وإقامة لقاءات وشنّ حملات إعلامية لتحسين صورة النظام المصري، وقد بدأت بالفعل في تنسيق لقاءات مع عدد من النواب والسياسيين الأميركيين لتوضيح موقف مصر من قضية السدّ، ومحددات التفاوض والتنازلات التي قدمتها بغية الوصول إلى اتفاق يوازن بين حقوق جميع الأطراف. فضلاً عن التركيز على تقديم بيانات تؤكد ارتفاع كفاءة الاستفادة المصرية من المياه في السنوات الأخيرة وتقليل المهدر والمفقود، وهي نقطة تروج إثيوبيا لنقيضها، باعتبار أنّ مصر تحمّلها كلفة فشلها في إدارة مواردها، وأنها تحصل سنوياً على أكثر من 80 مليار متر مكعب من المياه، أي أكثر من الحصة المنصوص عليها في اتفاقية عام 1959 مع السودان بواقع 30 مليار متر مكعب. الأمر الذي لا تعترف به مصر بالطبع، وتؤكد أنّ كفاءة استغلال المياه تصل حالياً إلى أكثر من 85 في المائة.
كما لم تصدر مصر إشارات أو بيانات تهاجم الإثيوبيين وتلمّح لاستخدام حلول غير دبلوماسية، إلا في الشهور الثلاثة الأخيرة، كان أبرزها عقد السيسي اجتماعاً في الثالث من مارس/آذار الماضي، ضمّ عدداً كبيراً من القادة العسكريين في مقر الأمانة العامة لوزارة الدفاع، على رأسهم وزير الدفاع الفريق أول محمد زكي ورئيس الأركان الفريق محمد فريد حجازي. وقد تطرّق البيان الرئاسي الصادر عن الاجتماع، إلى "ضرورة التحلي بأعلى درجات الحيطة والحذر والاستعداد القتالي، وصولاً إلى أعلى درجات الجاهزية لتنفيذ أي مهام توكل للحاضرين لحماية أمن مصر القومي، وذلك في ظلّ التحديات الراهنة التي تموج بها المنطقة".
وكان لافتاً ومعبراً عن اتساع الفجوة بين أفكار السيسي والواقعية الإثيوبية، ما حدث خلال زيارة أبي أحمد إلى مصر في يونيو/حزيران 2018، عندما طلب منه بصيغة أبوية متعالية، أن يقسم اليمين خلفه على أنّ إثيوبيا لن تضرّ بمصالح مصر المائية، وردّد أحمد خلفه القسم باللغة العربية.
وكان السيسي قد صرح مطلع عام 2018 بأنه "لم تكن هناك أزمة من الأساس حول سدّ النهضة"، بعد اجتماع في أديس أبابا مع نظيره السوداني المخلوع عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايله ميريام ديسالين، على هامش حضورهم قمة الاتحاد الأفريقي. وخالف السيسي بذلك كل التصريحات الرسمية المصرية التي أبدى فيها المسؤولون قلقهم وغضبهم من تردي المفاوضات، وميل الخرطوم إلى مواقف أديس أبابا، وعدم مراعاتهما المخاوف المصرية من تفاقم الفقر المائي. ثمّ اعترف السيسي خلال المؤتمر الثامن للشباب الذي عُقد في سبتمبر/أيلول الماضي بصعوبة الموقف.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقبيل انطلاق الاجتماعات الفنية الحاسمة برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي، صرح نائب مدير مشروع السدّ بيلاتشو كاسا، لوكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية، أنّ عملية الإنشاء تتقدم من دون أي تباطؤ "كما كان من قبل"، وأنّه تمّ بالفعل الانتهاء من لوح الوجه الخاص بسدّ السرج، وهو سدّ الخرسانة للوجه الصخري، الموجود على يسار السدّ الرئيسي. وللحفاظ على سلامة تدفق المياه، تمّ إنجاز العمل في جانب المجرى ليصبح السد قادراً على توفير الطاقة المطلوبة حتى 100 عام، حيث سيضم السدّ ثلاثة مجار للمياه بما في ذلك مجرى مائي في وسط السدّ الرئيسي، وممر للفتحات (قناطر) يمكن أن يسمح بأكثر من 14 مليون متر مكعب من المياه، وممر للطوارئ في الجانب الأيسر من سدّ السرج.
وتجادل مصادر مصرية بأنّ إثيوبيا قد لا تستطيع فنياً البدء في ملء الخزان في يوليو/تموز المقبل، بسبب عدم جاهزية الجسم الخرساني للقطاع الأوسط من السدّ إلى الآن، والمفترض أن يتم الانتهاء منه قبل شهرين على الأقل من بدء الملء، علماً بأنّ مصر كانت تتمنى البدء السريع في فترة الفيضان والرخاء الحالية في نهر النيل.