تسجيلات محمد علي كلاي تروي سيرته (3/4)

17 مارس 2020
+ الخط -
في عام 1971، أصدرت المحكمة الفيدرالية العليا حكماً تاريخياً يقضي باستعادة محمد علي لرخصة ممارسة الملاكمة بعد مرور خمس سنين على قرار إيقافه، ليبدأ محمد علي الاستعداد للعودة فوراً إلى حلبة الملاكمة، برغم تضخم وزنه وتشكيك الكثيرين في إمكانية عودته، ويقوم ببناء معسكر تدريب في منطقة "دير ليك" الجبلية في ولاية بنسلفانيا، أسماه "جنة الملاكم"، ليحاط فيه طيلة الوقت بأسرته وأقاربه وأصدقائه المقربين.



يروي صديقه المطرب الشهير توم جونز لكاميرا فيلم (أنا علي) مشهداً مهماً حدث في تلك الفترة، يصف علاقة محمد علي بجمهوره العريض عبر العالم، وكيف تحولت تلك الجماهيرية العريضة إلى عبء مفزع عليه، كان توم جونز ومحمد علي قد اتفقا على القيام بمباراة استعراضية غير حقيقية أمام الكاميرات، يرتدي فيها توم لبس الملاكم ويتبادل اللكمات مع محمد علي، ورغم أن اللقطات كلها كانت استعراضية إلا أن توم جونز كان يحس بخوف شديد وهو يقوم بتلقي اللكمات وتوجيهها، وشعر من مجرد ملامسة يد علي لفمه في ضربة خفيفة أنه من المرعب مواجهة هذا الرجل في حلبة ملاكمة، وعندما طلب منه علي أن يوجه له ضربة يسقط بعدها على الأرض متظاهراً أن توم أسقطه بالقاضية، لم يكن الاثنان يتخيلان أن انتشار تلك الصورة التي ظنها الاثنان ظريفة، ستكون بداية لحملة تطالب علي بالاعتزال لأنه كبر ولم يعد قادرا على الملاكمة، بدليل أن توم جونز أسقطه أرضاً، فماذا سيفعل به إذن عتاة الملاكمين؟ لكن تلك الضغوط الإعلامية والجماهيرية التي أثارت توتر كل من حول محمد علي، زادت علي إصراراً على ضرورة العودة لانتزاع لقب بطل العالم بأي ثمن.

يروي مدير أعمال محمد علي واقعة مؤثرة تدل على إنسانية علي، وتدل أيضا على رغبته العارمة في أن يعود إلى موقعه كبطل للعالم من جديد: كان علي قد التقى في المنطقة المحيطة بمنزله الجبلي بطفل يرتدي طاقية صوفية، فسأله علي: لماذا تضع هذه الطاقية اليوم والجو ليس باردا؟ فقال له الطفل إنه يعاني من اللوكيميا، فتأثر علي بشدة وقال للطفل: سأقول لك شيئاً، سأقوم بمنازلة جورج فورمان وسأغلبه وستغلب أنت اللوكيميا، فرد الطفل: أتمنى أن تكون محقاً يا علي، والتقط مدرب محمد علي صورة له مع الطفل وأخذ عنوان الطفل لكي يتواصل معه مستقبلاً، وبعد أسبوعين تلقى مدير أعمال علي اتصالا من والد الطفل يقول له إن الطفل تم نقله إلى مستشفى ببنسلفانيا وأنه لن ينجو من المرض، وأن كل ما يتمناه الآن هو لقاء محمد علي، وفي فجر اليوم التالي، عندما خرج علي لأداء رياضته الصباحية، أخبره مدير أعماله بما حدث، فتوجه على الفور إلى المستشفى، ليفاجأ الطفل ببطله الأعظم يزوره وهو في أقصى حالات مرضه، فيقول له: "محمد كنت أعرف أنك ستأتي"، ليحتضنه محمد علي وليقول له وهو يغالب البكاء: "قلت لك أنني سأهزم فورمان وأنت ستهزم السرطان، هذا ما سيكون"، ليرد الطفل: "لا يا محمد أنا سأذهب لألتقي بالله وسأخبره أنني عرفتك"، ليجد محمد علي الذي لا يتوقف عن الكلام والضحك نفسه عاجزاً عن نطق كلمة منذ خرج من المستشفى، وبعد يومين جاء اتصال من والد الطفل يخبر مدير أعمال محمد علي بأن الطفل قد توفي، وقال علي إنه لن يقوى على حضور الجنازة، لكن مدير أعماله حضرها بالنيابة عنه، ليرى جثمان الطفل في التابوت وهو يحتضن صورته مع محمد علي، التي كتب عليها محمد علي بخطه: "سأهزم جورج فورمان وستهزم أنت السرطان".
علي وفورمان وفرايزر بعد أن مضى قطار العمر 

لم تجد مخرجة الفيلم ما تعرضه بعد هذه الواقعة المؤثرة أفضل من تسجيل لمكالمة يتحدث فيها محمد علي مع ابنه محمد وهو يقول له ضاحكاً "أراهن أنك لا تحفظ الحروف الأبجدية" فيقول له الابن ضاحكاً: "لا طبعا أحفظها"، ويبدأ في ترديدها مغناة بشكل طفولي ويختمها بعبارة "لماذا لا تأتي لتلعب معي"، فيضحك أبوه ويقول له: "أنا أحبك جدا وأفكر فيك كل يوم وأفتقدك"، وبعدها يبدأ الفيلم في رواية قصة محمد علي الابن والذي نفاجأ بأنه مختلف عن أبيه تماما في المظهر، حتى أن أخواته البنات كان بهن شبه أقرب إلى الأب من حيث البنية الجسدية ولغة الجسد، ليحكي محمد علي الابن عن حرص والده على أن تتكون رابطة أخوة قوية بين أبنائه من زيجاته المختلفة، ولذلك كان يحرص على جمعهم سوياً طيلة الصيف، ليقوم بأداء ألعاب سحرية لهم واللعب معهم، لكنه حكى أيضاً أنه كان يلاقي متاعب في المدرسة بسبب والده، لأن عددا من الأطفال كان يريد أن يرى هل يجيد الملاكمة مثل أبيه أم لا، وهو ما كان يتسبب له بكثير من المتاعب، وهو ما جعله يرغب في ألا يتواجد أبدا في مجال والده، وأن يكون مجرد طفل عادي، ويتذكر أن والده قال له "لا أريدك أن تكون مثلي بل أن تكون أفضل مني"، لكن الابن يضيف بضحكة لا تخلو من المرارة معلقاً على كلام أبيه: "كيف يمكن أن تكون أفضل من الأعظم، هاه كيف؟".

في عام 1974 بدأ محمد علي تدريباته النهائية لمنازلة جورج فورمان على لقب بطولة العالم، وخلال قيام محمد علي بلقاء تلفزيوني استعاد فيه روحه القديمة التي أحبها جمهوره وهو ينبه العالم إلى أن فورمان ليس أكثر من خديعة انطلت على الجميع، ظهرت لقطات لأمه وهي تجلس في الجمهور ساهمة قلقة وسط جمهور ضاحك متفاعل، لندرك حقيقة مشاعرها وخوفها على ابنها الذي غاب عن الملاكمة سنين طويلة، في حين كان علي يواصل سخريته من فورمان مذكراً الجميع بما قيل من عشر سنين عنه قبل ملاكمته مع سوني ليستون، وواعداً أنه سيسحق فورمان كما سحق ليستون من قبل، مع حرصه على أن يؤكد أنه لا مقارنة بين فورمان وليستون، لأن فورمان ليس سوى شحات بطئ ليس لديه مهارة ولا قدرة على تحريك قدميه، وأنه كما سمى ليستون بالأرنب، فإنه سيطلق على فورمان تسمية رسمية هي "المومياء"، وحين سأله المذيع: "لماذا المومياء"، نهض علي من على كرسيه مقلداً مشية فورمان المتباطئة بسخرية، ثم قلد الطريقة التي سيلاكم بها مومياء مثل فورمان، قائلاً إنه سيضطر لتنبيهه إلى مكانه على الحلبة، لأن علي بطبيعته يطير في أرجائها طيلة الوقت قبل أن يلدغ المومياء.

طار محمد علي بعدها إلى زائير حيث كانت ستقام المباراة، يروي مدربه ضاحكاً أن محمد علي حين كان في الطيارة جاءه كابتن الطائرة ومساعده للترحيب به، وانبهر علي من كونهما لم يتجاوزا السابعة والعشرين من عمرهما، فقال لمدير أعماله بحماس: "شايف، شباب السود أيضا يستطيعون فعل كل شيئ مثل البيض وأحسن"، بعد قليل تعرضت الطائرة لمتاعب جوية، فنظر إليه علي وقال: "أتمنى أن يكونوا بنفس كفاءة وذكاء الطيارين كبار السن". وعندما اقترب علي من النزول من الطائرة ورأى حشودا ضخمة من القادمين لاستقباله سأل مدير أعماله: "في رأيك ما هو أكثر شيء يكرهه هؤلاء الناس"، فرد عليه: "يكرهون البيض"، قال له: "لا، لا أستطيع أن أقول لهم أن فورمان أبيض لكي يكرهوه"، فقال مدير أعماله: "إنهم يكرهون البلجيكيين لأنهم كانوا يحتلون زائير"، فصمت محمد علي ولم يعلق على ما سمعه، ليفاجأ مدير أعماله بمحمد علي وهو محاط بآلاف المستقبلين له وقد أخذ يصرخ بقوة: "جورج فورمان بلجيكي"، لتصاب الحشود بحالة من الهستيريا وتهتف بهتافات غير مفهومة، حين سأل مدير الأعمال المترجم عنها قال له "إنهم يقولون لمحمد علي اقتله اقتله".



لم يكن محمد علي كلاي بحاجة إلى مساعدة إضافية لكي يحبه جمهوره العريض في الكونجو أكثر، لكن غريمه المنتظر جورج فورمان ساعده على ذلك دون أن يقصد، حين دخل إلى مركز تدريبه في العاصمة الكونجولية بصحبة كلب ضخم من فصيلة "الراعي الألماني"، والتي تصادف أن القوات البلجيكية كانت تستخدمها في قمعها للمواطنين خلال فترة احتلالها للكونجو، ليكون تصرفه ذلك قشة قصمت ظهر أي تعاطف معه، وليتوحد الجمهور بأكمله ضده في مباراته مع محمد علي، فيشعر محمد علي أنه يلعب على أرضه ووسط جمهوره.

قبل المباراة كانت الأجواء ضاغطة بشدة على أعصاب فورمان، فقرر ألا يحضر المؤتمر الصحفي الذي انعقد قبلها، ليصول ويجول محمد علي في سخريته من فورمان أمام كاميرات الصحفيين، وهو ما زاد من الضغط العصبي على فورمان لدرجة أنه جرح عينه أثناء التدريب، فجاء أحد مساعدي الرئيس الكونجولي موبوتو سيسيكو ليقول لمحمد علي إنه يخشى أن ينسحب فورمان من المباراة بسبب إصابته، فرد عليه جين كيلروي مدير أعمال محمد علي قائلاً إنه لا يثق في ادعاءات فورمان الذي يشعر بأنه سيتعرض للإهانة إذا لاكم محمد علي، ولذلك فهو ينصح بأن يتم حجب جوازات سفره هو وفريقه لكي لا يغادروا البلاد، ولكي لا تخسر الكونجو فرصة إقامة حدث عالمي مثل مباراة علي ـ فورمان قد لا يتكرر ثانية، بعدها مباشرة ظهر محمد علي في مؤتمر صحفي ناري وقام بممارسة المزيد من الضغط الإعلامي على فورمان لكي لا يفكر في الإنسحاب، قائلا أن فورمان يدعي الإصابة لكي يهرب من مواجهته، لكنه لن يسمح له بذلك، وسيواجهه على الحلبة لكي يثبت للعالم أنه لا يزال أقوى وأسرع وأرقى ملاكم في الأرض.

لم يخيب محمد علي ظن عشاقه، فقد استطاع في مباراته مع فورمان أن يثبت كل ما وعد به في مباراة تاريخية أعاد فيلم (أنا علي) عرض نهايتها المبهرة، واختارت مخرجة الفيلم التعليق على لقطات سحق علي لفورمان بحديث لمدير أعمال علي يقول فيه إن علي كان يدرك قبل المباراة أن فورمان أقوى منه، لكنه كان يؤمن دائماً بأن صراعات الملاكمة والحياة بشكل عام لا يفوز فيها الأقوى، بل يفوز فيها الأذكى، وأن فورمان قوي بدنياً، لكنه لا يمتلك القوة العقلية التي تمكنه من إدارة قوته الجسدية طول فترة المباراة، بحيث يدرك أنه الآن في الجولة الخامسة أو في السادسة، وأن عليه أن يغير تكتيكه الآن لكي يستمر، وهو ما حدث بالفعل خلال المباراة التي كان فورمان فيها مندفعا أكثر من اللازم في محاولته القضاء على محمد علي الذي كان يتصرف بانضباط شديد كان سبب فوزه في المباراة.



يقول مدير أعمال محمد علي أنه سأل علي "لماذا لم توجه ضربة إضافية إلى فورمان وهو يتهاوى بعد سيل الضربات التي انهلت عليه بها"، فأجابه محمد علي:"لقد نال كفايته"، ويضيف مدير أعماله معلقا أن محمد علي كان يدهشه دائما بحسه الإنساني وبقدرته على التواصل مع الناس، لدرجة أنه يخالف من كانوا يقولون بأن محمد علي لم يكن لينجح إلا كملاكم، فهو يرى أنه لو كان قد ورث جينات والده الفنان لأصبح رساما عظيما، ولو كان من هواة الكتابة لأصبح كاتبا عظيما، ولو كان محاميا لاستطاع إقناع هيئات المحلفين بما يريده، كل ذلك لأنه يمتلك موهبة يتفرد بها عن غيره هي القدرة على التواصل السحري مع الناس.

بعد مرور سنين طويلة على تلك المباراة يلتقي الفيلم بخصم محمد علي جورج فورمان الذي كان يبدو خلال التصوير في قمة لياقته وكامل صحته، ليعترف في حديثه بأن مباراته مع محمد علي غيرت حياته، لأنه لم يكن قد خسر قبلها أبداً، وكان ينوي أن تكون تلك المباراة الأسهل في مشواره المهني، وأنه فعل ما كان يجب عليه فعله ووجه إليه كل الضربات الممكنة على مدى ست جولات، ليفاجأ به في نهاية الجولة السادسة يقترب منه ويصرخ في أذنه: "هل هذا كل ما لديك يا جورج"، يضحك جورج قائلا "لقد كان ذلك كل ما لدي بالفعل وقد تحولت المباراة بعد ما قاله لي إلى كابوس لأخرج من المباراة منسحقا، ولم أفهم لماذا خسرت تلك المباراة، حتى أدركت أنه أعد نفسه جيدا للمباراة، أما أنا فلم أكن قد أعددت نفسي ذهنيا لكي أستطيع المواصلة ولذلك انهزمت، وأتذكر أنني عندما تركت الملاكمة في السبعينات وبدأت ألقي مواعظ في كنيسة، التقى بي صحفي وسألني ما الذي حدث في أفريقيا يا جورج، وكان قد مر الكثير من الوقت لكي أستطيع استيعاب ما حدث، فقلت له: ما حدث أنني لم أخسر مباراة ملاكمة عادية، بل خسرتها أمام أعظم ملاكم في الأرض، أمام رجل لا يقبل أبدا بالإستسلام".

يذيع الفيلم مقطعا من مكالمة قام بها محمد علي مع جورج فورمان بعد مرور خمس سنوات على تلك المباراة، يثني فيها علي بمودة بالغة على قيام فورمان بالاتجاه للوعظ في الكنيسة، ويصف تأثره بتلك الخطوة برغم اختلاف الديانة، قائلا له: "الناس عندما يتدفقون على الكنيسة للاستماع إليك وأنت تعظ، لا يأتون لسماع ملاكم خسر بطولة العالم، بل يأتون لسماع بطل منتصر، وهذا هو المثير فيما تقوم به"، يعلق فورمان على علاقته مع محمد علي فيقول بتأثر شديد: "الناس يأتون كثيرا ليسألونني: هل تعتقد أن محمد علي هو أعظم ملاكم في تاريخ الكون؟، فيشعرني ذلك بالإهانة، لأنهم يقللون من قيمة محمد علي، فالملاكمة لم تكن فقط هي كل ما يمكن تصنيف محمد علي به، لأنني أعتقد أن محمد علي واحد من أعظم الأشخاص الذين عرفهم كوكب الأرض"، وربما جعلك رد فعل كهذا يأتي من منافس خسر لقبه العالمي على يد محمد علي، تتفهم سر الإفتتان بمحمد علي من كل من عرفه واقترب منه.

....

نختم غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.