تريز سليمان: أغانٍ كأنّها ارتحال دائم

20 مارس 2020
تجربة موسيقية كانت لها تحدياتها الخاصة (العربي الجديد)
+ الخط -
المغنية الفلسطينية تريز سليمان (حيفا/1985) واحدة من الأصوات الغنائية الجديدة والمميزة، التي اكتسحت الساحة الفنية العربية في السنوات القليلة الماضية. قادها شغفها بالغناء إلى تسجيل أول أغنية في عمل مسرحي وهي في التاسعة، لتواصل مشروعها الغنائي وهي صغيرة وتتوج ذلك بمسار أكاديمي حول الموسيقى والتربية من جامعة حيفا، محاولة خلق تجربة فنية تمزج فيها بين الغناء والتمثيل المسرحي، مع كل من ريمون حدّاد وحبيب شحادة ويوسف حبيش وعامر حليحل وبشار مرقص، وغيرهم من المبدعين الفلسطينيين، الذين أسست معهم آفاقاً فنية غنية لحظة الجامعة.

لكنها استطاعت بعد سنوات، التحليق بعيداً في سماء الفن العالمي من خلال الاشتغال مع تجارب موسيقية من النرويج وإسبانيا وفرنسا وغيرها. ثمة في صوت تريز سليمان، ما يدعو إلى فتنة الإعجاب والتماهي مع أغانيها، التي تبدو وكأنها ارتحال دائم في التاريخ والجغرافيا والجسد والحرية واللون، كلها مطبوعة بغُبن وجُرح مجلل بفرح متقطع، يشبه بكاء الطفل. إنه الصوت الذي يشبه علامة وجود داخل الجُرح البشري، إنه أشبه بالنشيد الأورفيوسي، الذي يجمل حياتنا الرتيبة، خاصة أن تريز سليمان حريصة في مجمل أغانيها على التفاصيل الصغيرة المُهمشة، التي لا ينتبه إليها، إلا الفنان الصوفي المتماهي مع أنين التاريخ وإيقاع الوجود.

بمناسبة صدور ألبومها الغنائي الجديد "موج عالي" (2020)، تقول المغنية الفلسطينية تريز سليمان في مقابلتها الخاصة مع "العربي الجديد" إنه الألبوم "الثالث بعد "زهر اللوز" و"مينا"، وهو تجربة موسيقية كانت لها تحدياتها الخاصة وفقاً للظروف التي تشكلت خلالها ككل تجربة أخرى. على الصعيد الشخصي، "موج عالي" هو بمثابة وردة مني إلى الناس التي ما زالت تتخذ من الجمال والحق طريقاً لها وإن تعبت".

كان من المنتظر أن يتم إطلاق هذا الألبوم ببعض الدول الغربية، إلا أنه بسبب تفشي كورونا، تم تأجيل الحفل واقتصاره فقط على بعض المنصات مثل سبوتيفاي، يوتيوب، ساوندكلاود، أنغامي وغيرها، وما إذا كان ذلك يضعف من قيمة الألبوم. تقول: "نحن في عام 2020، الإطلاق الرقمي هو شكل "طبيعي" من أشكال التعاطي مع كل ما يحيطنا من أمور "غير طبيعية" (للأسف طبعا)، أما عن موضوع الأبعاد السلبية؛ فلا أتعاطى مع هذه الأبعاد بجدية سلبية، ما دام موضوع إقامة العروض الحية هو أمر آني، لا بدّ منه وما دام التخطيط للعروض القادمة ساريا وقيد التنفيذ حال اجتياز هذه المرحلة".

وعن تلحين أغاني الألبوم واشتغالها مع الموسيقي الفلسطيني ريمون حدّاد وكيف جرى التعاون والاشتغال لحظة الإعداد، ثم في ما بعد مع بداية التوضيب، تقول: "التعاون بيني وبين زميلي ريمون حداد هو بمثابة إغلاق دائرة بعد مشروعنا المشترك "مجاز" الذي عملنا عليه عام 2007. وقد كان دون شك تعاونا خاصا بنظري وفق الظروف التي نشأ فيها هذا المشروع، ومنها السقف الزمني القصير جدا، ستة شهور بالتمام والكمال مرت منذ أن كان الألبوم مجرد فكرة إلى أن أصبح منتجاً، وفق هذا السقف الزمني تم وضع طريقة العمل والكتابة والتلحين والإعداد والتسجيل، وبفضل هذه الظروف كان العمل بمثابة شراكة ثلاثية الأضلع، أنا وريمون والثقة بالمحتوى اللحظي-المتراكم، وهذا قد جمع ما بين الغرابة والجمال، الفطرية والمهنية بنظري".

وإلى جانب اشتغالها مع موسيقيين من فلسطين، استطاعت تريز الانفتاح على أصوات موسيقية من النرويج، تقول إن التعاون في هذا الألبوم مع عازفين نرويجيين، مثل إيفيندآرسيت-عازف الغيتارات وهيلغي أندريا سنورباكين- عازف الإيقاعات، "هو تعاون أنا ممتنة جدا لأجله، فهما موسيقيان مهمان جدا وعلماني درساً سريعاًً؛ أن أثق بما أعرف ومهما عرفت أن أظلّ مستعدة لحقيقة أنه ما زال أمامي الكثير الكثير لأتعلّمه".



وعن ما إذا كانت الأغنية العربية ما تزال قادرة على تثوير مخيّلة الإنسان الفلسطيني أمام العنف والتنكيل الذي تعرض له منذ سنوات، تقول: "أنا مؤمنة بأننا كبشر لدينا طاقات وأدوات مهولة لمواجهة أبشع ما يمكن تصوره. لا أعتقد أن تثوير المخيلة هو ما نحتاج، كما لا أعتقد أنه في خضم هذا الزخم الصوري للبشاعة ما زالت هناك قدرة للأغاني على تجاوز تثوير المخيلة، لكني أؤمن لا شك أنه بإمكان الأغاني التخفيف من حزننا الداخلي الذي نغلفه أحيانا بابتسامه ومن شحن مشاعر الغضب أو الحب أو طرح سؤال ولكن الثقل الأهم بنظري هو ما بعد "ثورة المشاعر اللحظية" وفي كيفية تطويع هذه المشاعر عند كل منا".

عن المشروع الموسيقي العالمي الذي يدعى "مينا" المُنجز قبل سنوات والذي يقوم على الغناء بالعربي والبرتغالي، تضيف: "مينا، فرقة موسيقية خصوصيتها التشبيك بين الثقافات المتوسطية وقد اعتمدت في ألبومها الموسيقي الأول الذي صدر عام 2016 على الإرث الموسيقي، لا سيما ابن الأماكن المهمشة، وكانت قد شاركت في عروض ومهرجانات مهمة ومنها على صعيد العالم العربي؛ مهرجان الربيع، البلد، حيّ، أرابيسك، فلسطين الداخل والخارج وغيرها. وقد كانت دوافع "مينا" الأساسية لاختيار ثيمة الأغاني التراثية على مستوى النص والموسيقى تقديم صور عن الحب والحرب والعلاقات الإنسانية والقيم التي باتت بشكل أو بآخر مغيبة وطرحها كنقطة التقاء بين الشعوب سواء في الكلمة أو الموسيقى، على عكس الصورة التي يراد فيها لهذه الشعوب أن تختلف وتتباعد".



تختم حديثها لـ "العربي الجديد" عن قيمة استلهام التراث، في الوقت الذي نرى فيه أن الشعوب العربية، بدأت تتخلى عن هويتها الفنية أمام الاكتساح الطافح للعولمة، في كون "العودة للتراث، للجذور، للحب والعمل والقناعة والمساندة والاختلاف ومواجهة الجوع أو الفساد بأكثر الصور فطرة هو القيمة الأجمل والحاجة الشخصية الأهم التي كانت من وراء انتقاء ثيمة الأغاني التراثية في ألبوم "مينا" الأول. ما كنت لأقيّم المشاريع الفنية الجديدة في العالم العربي على أنها تخلت عن هويتها، لربما أخذت أشكالا جديدة منها ما يشبهنا ومنها ما هو بعيد كل البعد عما كنا ننتظر، منها ما هو متين وقيّم، ومنها ما هو سطحي، منها ما تشكل لأهداف وحسب مقاييس تجارية بحتة ومنها ما تشكل بغاية الفن كقيمة ذهنية وحسية ومنها من يحاول أن يجمع ما بين الاثنين. كلها تجارب مهم أن تأخذ مساحتها، الهش منها سيتبدل بسرعة البرق والقوي سيفرض حضوره عند المستمع ولو اختلفت الأذواق أو اختلفت النسب والأشكال التي يقاس بها النجاح".
المساهمون