14 نوفمبر 2018
تركيا ولعبة شد الحبال ضد الفدرلة
يلفت الأنظار الاندفاع التركي المحموم، والإصرار منقطع النظير على الوجود عسكرياً في محافظة إدلب في سورية، ومحاولة التدخل في المشهد الميداني هناك. لقد بلغ هذا الاندفاع درجة من الإصرار دفعت الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، شخصياً للتنازل من عليائه السلطاني والقيام بزيارتين إلى إيران وروسيا في فترة قصيرة جداً، مقدماً لكليهما الملف السوري برمته، ومعبراً عن استعداده التام للتعاون معهما في حل المسألة السورية، كما يرغبان، ولكن في مقابل شرطين: منع قيام كيان كردي مستقل في المنطقة، والسماح له بالدخول إلى إدلب والوجود فيها عسكرياً وسياسياً. ولكن لماذا إدلب؟ ما المهم في إدلب في حسابات تركيا القومية والاستراتيجية؟ هناك سببان لا يقلان أهمية ولا مصيرية عن بعضهما في الفكر التركي الاستراتيجي.
أولاً، يدخل التركي إلى إدلب، لكي ينقذ كتائب جبهة النصرة وسواها، من التصفية الشاملة التي تم أخذ قرار إقليمي ودولي بمحو هذه الكتائب من المشهد السوري. يدخل أردوغان بقواته إلى إدلب، لكي ينقذ الكتائب التي سلحها نظامه ودربها وأمن لها الغطاء السياسي والعقائدي، وشرع لها حدوده كي تدخل الساحة السورية، وتحول الثورة إلى حرب مدمرة. يدخل التركي كي يقول لصناع القرار إنه قادر على تهجين تلك الكتائب، وتحويلها من جبهات نصرة راديكالية إلى
فصائل إسلامية معتدلة، مستعدة للتعاون وجاهزة للانخراط في حل سياسي، ولتقاسم السلطة مع النظام. يدخل أردوغان إدلب ليعيد تأهيل الكتائب الجهادية، وينقذها من حالة "تورا بورا" أخرى، مراهناً على أنه يستطيع أن يعيد في سورية إنتاج مشهد ليبي، يتيج للإخوان المسلمين والإسلامويين المحسوبين على تركيا، الدخول إلى محاصصة السلطة من بوابة الرعاية التركية الضابطة إيقاع الإسلامويين، العسكري والعنفي، والضامنة تعاونهم في أي حل سياسي، مع الإبقاء على تلك الفصائل في حالة تعبئة عسكرية وميدانية، على أمل استخدامها لاحقاً، حين تدعو الحاجة إلى قضم حصة أكبر من كعكة السلطة، حين يجلس الجميع على طاولة التحاصص. لهذا سمعنا أن جبهة النصرة "استقبلت" القوات التركية الواصلة إلى إدلب، وسهلت لها عملية الدخول. ولهذا سنسمع قريباً الصوت التركي يعلو مدافعاً عن "اعتدال" جبهة النصرة و"وسطيتها" و"لاعنفيتها"، وكذا كتائب الإخوان المسلمين واستعدادها، تحت إمرة راعيها وأبيها السياسي والروحي، لفرض اتفاق أستانة في سورية، وإرضاء الروسي بفعل ذلك.
ثانياً، وهو سبب أهم بكثير استراتيجياً وقومياً في المستقبل، تدخل تركيا إلى إدلب، لكي توجد بكل الوسائل والسبل كياناً إسلاموياً (سنياً تحديداً وحصراً) في قلب الشمال الغربي السوري، لأنها تحتاج لكيان جغرافي وديمغرافي وطائفي كهذا، وبشدة في المستقبل الآتي. وكان صاحب هذه المقالة قد كتب سابقاً أن صناع القرار في العالم عازمون بجدية على فدرلة (أو كونفدرلة) المشرق برمته وبكل دوله، بما فيها إيران وتركيا، وأن هذا هو الهدف البعيد الاستراتيجي الآتي إلى المنطقة، وقد تلقفه الأكراد (مبكراً جداً في الواقع) أخيرا، وعملوا على التعامل معه أمراً واقعا، وأعلنوا لدول المنطقة أن ساعة تنفيذه دقت. في ضوء مشروع الفدرلة، تحارب تركيا بشكل حميم، كي تحافظ على وجودها الجغرافي، من دون إعادة تنظيم فيدرالي فيها. وتركيا لا ترتعب فقط من إمكانية بدء تطبيق النظام الفيدرالي فيها، انطلاقاً من الشرق الكردي، بل تخاف أيضاً من عملية قضم فيدرالية أخرى لها، لا تقل جديةً وخطورةً على نظام أنقرة، تقع في جنوبها الأوسط المتاخم للحدود السورية الشمالية الغربية. علينا أن نتذكّر أن هناك تجمعا علوياً ضخما يقدر بعدة ملايين من البشر، يسكن في المناطق الجنوبية الوسطى من تركيا، والتي
تتاخم منطقة إدلب ومنطقة الساحل. بالنسبة للعقل التركي السياسي، أن تتحدث عن الساحل السوري يعني أنك تشير إلى المناطق "العلوية" في سورية (يصر التركي على إنكار التنوع الهائل في المنطقة واختزالها بالطائفة العلوية). وإذا ما بدأ تطبيق فيدرالية (أو كونفدرالية) في سورية (الأمر الذي يستعد له النظام السوري منذ الآن بتعبيره عن قبول نتائج استفتاء الأكراد في سورية المستقبل) فهذا سيعني، برأي التركي، أن علويي الساحل السوري وعلويي الجنوب الأوسط التركي قد يفكرون بتأسيس كيانهم المستقل أيضاً، ما يعني قضم مناطق مهمة جداً من تركيا، وضمها لفيدرالية الساحل السوري، وبالتالي تشكيل تهديدين كبيرين للنظام التركي، واحد من الكرد في الشرق وواحد من العلويين في الجنوب. لا يرضي هذا الاحتمال التركي أبداً ولا يريحه بالمرة. لهذا يستقتل التركي لاقتحام إدلب، والعمل على إيجاد كيان مجتمعي، ديمغرافي وطائفي سني قوي ومتوازن وآمن وذي ديمومة في إدلب، كي تمنع أي احتمال لاستقلال فيدرالي موسع، يحلم به علويو الساحل السوري والجنوب الأوسط التركي.
قبل سنتين، تخلى النظام التركي كلياً عن الملف السوري، وباع المعارضة السورية، بعد محاولة الانقلاب على السلطة في تركيا. اليوم يجد التركي نفسه متحمساً للعودة إلى المشهد السوري، كي يمنع احتمالات راديكالية تنتظر تركيا وكل دول المنطقة. وإدلب هي بيضة القبان التي يراهن عليها التركي اليوم، كي ينقذ إسلاموييه من التصفية الشاملة، وكي ينقذ جنوبه من نتائج هذا المشروع الفدرالي (أو الكونفدرالي) القادم إلى المنطقة، شئنا أم أبينا. هل ينجح التركي في مسعاه الاستراتيجي؟ علينا أن نراقب ونرى إرهاصات التبدلات الهائلة التي تحول المشرق إلى عالم لم يعد أهله يعرفونه أبداً.
أولاً، يدخل التركي إلى إدلب، لكي ينقذ كتائب جبهة النصرة وسواها، من التصفية الشاملة التي تم أخذ قرار إقليمي ودولي بمحو هذه الكتائب من المشهد السوري. يدخل أردوغان بقواته إلى إدلب، لكي ينقذ الكتائب التي سلحها نظامه ودربها وأمن لها الغطاء السياسي والعقائدي، وشرع لها حدوده كي تدخل الساحة السورية، وتحول الثورة إلى حرب مدمرة. يدخل التركي كي يقول لصناع القرار إنه قادر على تهجين تلك الكتائب، وتحويلها من جبهات نصرة راديكالية إلى
ثانياً، وهو سبب أهم بكثير استراتيجياً وقومياً في المستقبل، تدخل تركيا إلى إدلب، لكي توجد بكل الوسائل والسبل كياناً إسلاموياً (سنياً تحديداً وحصراً) في قلب الشمال الغربي السوري، لأنها تحتاج لكيان جغرافي وديمغرافي وطائفي كهذا، وبشدة في المستقبل الآتي. وكان صاحب هذه المقالة قد كتب سابقاً أن صناع القرار في العالم عازمون بجدية على فدرلة (أو كونفدرلة) المشرق برمته وبكل دوله، بما فيها إيران وتركيا، وأن هذا هو الهدف البعيد الاستراتيجي الآتي إلى المنطقة، وقد تلقفه الأكراد (مبكراً جداً في الواقع) أخيرا، وعملوا على التعامل معه أمراً واقعا، وأعلنوا لدول المنطقة أن ساعة تنفيذه دقت. في ضوء مشروع الفدرلة، تحارب تركيا بشكل حميم، كي تحافظ على وجودها الجغرافي، من دون إعادة تنظيم فيدرالي فيها. وتركيا لا ترتعب فقط من إمكانية بدء تطبيق النظام الفيدرالي فيها، انطلاقاً من الشرق الكردي، بل تخاف أيضاً من عملية قضم فيدرالية أخرى لها، لا تقل جديةً وخطورةً على نظام أنقرة، تقع في جنوبها الأوسط المتاخم للحدود السورية الشمالية الغربية. علينا أن نتذكّر أن هناك تجمعا علوياً ضخما يقدر بعدة ملايين من البشر، يسكن في المناطق الجنوبية الوسطى من تركيا، والتي
قبل سنتين، تخلى النظام التركي كلياً عن الملف السوري، وباع المعارضة السورية، بعد محاولة الانقلاب على السلطة في تركيا. اليوم يجد التركي نفسه متحمساً للعودة إلى المشهد السوري، كي يمنع احتمالات راديكالية تنتظر تركيا وكل دول المنطقة. وإدلب هي بيضة القبان التي يراهن عليها التركي اليوم، كي ينقذ إسلاموييه من التصفية الشاملة، وكي ينقذ جنوبه من نتائج هذا المشروع الفدرالي (أو الكونفدرالي) القادم إلى المنطقة، شئنا أم أبينا. هل ينجح التركي في مسعاه الاستراتيجي؟ علينا أن نراقب ونرى إرهاصات التبدلات الهائلة التي تحول المشرق إلى عالم لم يعد أهله يعرفونه أبداً.