11 نوفمبر 2024
تركيا والنخب والإسلام السياسي
كلما اتخذت تركيا موقفاً، وعدّلته أو تراجعت عنه، عمد يساريو تونس وعلمانيّوها إلى تعيير حركة النهضة، وكأنها وكيل تركيا الرسمي. يخفي هذا الموقف صبيانيةً سياسيةً، تذكّرنا بالثقافة التي صاغتها الحركة الطلابية في ثمانينات القرن الفارط، وهي الفترة التي أفرزت جل وجوه الطبقة السياسية، حكماً ومعارضةً، التي تصدرت المشهد السياسي بعد الثورة تحديداً، حتى أن عديدين منهم ما زالوا يرتكبون زلات لسانٍ، حين ينادي بعضهم بعضاً بأسماءٍ حركية/ سرية، وهم في رحاب مجلس النواب أو مجلس الوزراء. كانت الفصائل الطلابية آنذاك تعيّر بعضها بعضاً بما يرتكبه مثلاً الاتحاد السوفييتي أو إيران أو ألبانيا والصين وغيرها من النظم التي مارست جاذبيةً وغوايةً لا تُقاوم. ولم نكن قد اكتشفنا، بما فيه الكفاية، شموليتها، ولربما كان للشمولية بالذات سحر لا يقاوم أيضا آنذاك. كانت الفصائل الطلابية تلك، وعلى الرغم من غياب المعلومة تبهر في توثيق تلك الجرائم، وتبدع في عرضها في معلقاتٍ حائطية واسعة الانتشار في ذلك العهد. تذكّرنا كل تلك الأحداث بأننا كنا نلم بتفاصيل ما يحدث في تلك البلدان، أكثر من إلمامنا بما يقع في مدننا النائية في الجنوب. كان بعضنا يعرف تفاصيل جغرافية تلك الدول أكثر من جغرافية وطنه.
لا أعتقد أن تركيا، وهي تتخذ مواقفها السياسية من أي قضيةٍ، تستحضر مدى توافق أي موقفٍ لها مع أهواء ونزعات أو ميول أحزابنا السياسية أو غيرها، بل إنها قد لا تقرأ لذلك حساباً، فكانت بوصلتها الوحيدة مدى تلاؤم تلك المواقف، بما فيها التراجعات "المؤلمة" مع مصلحة تركيا أولاً وأخيراً. وحينما فاز حزب أردوغان، منذ أكثر من عقد، وبدأ حزب العدالة والتنمية يتصدر المشهدين، الوطني والدولي، لم يكن الإسلام السياسي قد ظهر على الأقل بمثل هذه القوة الحالية. ومهما كانت قدرة الأتراك على الاستشراف، فإنهم لم يكونوا يتوقعون أن ترتفع أسهم بعض الحركات الإسلامية، كما لم يكن في مقدورهم تصوّر حدوث الربيع العربي وانهيار أنظمة وبروز أخرى.
على اختلاف مشاربها، فإن النخبة التركية بدأت منذ أزمنةٍ في تجريب الديموقراطية، ولا يزال بعض المفكرين يصنفها ديمقراطيةً فتيةً لم تنج من الارتباك والتعثر، وحتى التراجع أحياناً. لكن في ذلك كله، يبدو أنها مجمعةٌ بشكلٍ فريد على علوية المصلحة الوطنية، أي مصلحة تركيا بشكلٍ لا لبس فيه. لعل هذا الأمر بالذات يعدّ ميزة تركية خالصة، فما يميز الأتراك مقارنة مع العرب جيرانهم، ومنذ بدايات التجربة الأتاتوركية أنهم استطاعوا أن يبنوا دولة الأمة التركية، ولو كان ذلك على حساب أقلياتٍ أخرى. في حين ظلّ العرب مسكونين بطوبا الدولة الأمة إلى الآن كما أشار المفكر المغربي عبد الله العروي. أفرزت تجربة البناء الوطني في تركيا نخباً ملتفةً حول هذا المشروع. وربما تضاهي التجربة التركية، بهذا المعنى، التجربة الايرانية، حيث يمتاز البناء الوطني بقوة النخب الوطنية والتفافها حول الدولة، باعتبارها ضماناً ووعاء لتجربة البناء الوطني.
ولكن، لا أحد ينكر أيضاً أن حركات الإسلام السياسي قد تكون وجدت حالياً في شخصية
أردوغان مصدراً للإلهام، كما وجدت أيضاً في حزب العدالة والتنمية، وفي ظل التوجس الدولي والتحفظ الإقليمي صديقاً، وهذه أمور مشروعة في السياسة الدولية، ولا يعني أن تكون تلك التحالفات تنازلاً بالضرورة عن السيادة الوطنية. ترغب بعض الدول الإقليمية في أن تلعب أدواراً إقليمية، تتوازى مع حجمها وتلك المسائل، موكولة إلى "شطارة النخب" الحاكمة أساساً، وهو ما سعت إلى إثباته النخب التركية منذ أكثر من ثلاثة عقود. ما علينا أن نستلهم من التجربة التركية، بقطع النظر عن أيديولوجيات حكامها هو قدرة النخب التركية على الصبر على احترام الانتقال الديمقراطي وإجلاء الجيش عن الشأن السياسي، وذلك ما يشبه المعجزة، إذا ما استحضرنا الحالة المصرية، فالجيش التركي يُضاهي، أو يفوق، تجذّر الجيش المصري في الحياة الاجتماعية والسياسية للبلاد.
علينا أن نعتز بانتمائنا، ونبحث عن تجذيره في تاريخه والابتعاد عن تسلف تاريخ غيرنا، حتى ولو كان عثمانياً، فالتاريخ يعاد ابتكاره، ومن حق النخب التركية، وهذا مشروع أيضاً في البحث عن نقطة البداية، أو العصر الذهبي الجدير بالاستعادة. لكن اللافت للانتباه أن الأتراك، وهم يستعيدون تاريخهم، فإنهم يبتكرون حاضراً، لا يقل أهمية من ذلك التاريخ، على خلاف نخبٍ عربية عديدة، إما تزدري تاريخها الإسلامي أصلاً، وترى فيه اختلالا ودماراً وتخلفاً أو تقدّسه إلى حد التأليه، فلا ترى فيه إلا مجداً تليداً، علينا أن نهجر إليه خلفاً، ولو بالسير خلفاً.
في تونس، من "يكرهون" تركيا وحكّامها، إنما يفعلون ذلك، لأنهم يرون في حزب العدالة والتنمية "نهضة" أخرى، في حين أن الحقيقة أكثر تعقيداً من "سياسة الكره" هذه. حين ضرب الإرهاب قبل أيام مطار اسطنبول، أبدى عديد من هذه النخب شماتةً، عبّر بعضهم عنها مباشرةً، حتى تمنى لها المزيد، ملمحين إلى تواطؤ الأتراك مع الجماعات الإرهابية في السنوات الفارطة. وقد يكون ذلك صحيحاً إذا علمنا أن الإرهاب هو أيضاً من ورقات السياسات الدولية، فيستعمل للضغط والابتزاز والمزايدة أحياناً، بقطع النظر عن القناعات الأيديولوجية والسياسية.
من يتوّهم أن سقوط أردوغان ونظامه في تركيا مؤذن بزوال حركات الإسلام السياسي وتراجعه في البلدان العربية يُسقط أهواءه أكثر مما يحلّل الظاهرة، فبعض هذه الحركات أقدم من ميلاد تركيا الحديثة.
على اختلاف مشاربها، فإن النخبة التركية بدأت منذ أزمنةٍ في تجريب الديموقراطية، ولا يزال بعض المفكرين يصنفها ديمقراطيةً فتيةً لم تنج من الارتباك والتعثر، وحتى التراجع أحياناً. لكن في ذلك كله، يبدو أنها مجمعةٌ بشكلٍ فريد على علوية المصلحة الوطنية، أي مصلحة تركيا بشكلٍ لا لبس فيه. لعل هذا الأمر بالذات يعدّ ميزة تركية خالصة، فما يميز الأتراك مقارنة مع العرب جيرانهم، ومنذ بدايات التجربة الأتاتوركية أنهم استطاعوا أن يبنوا دولة الأمة التركية، ولو كان ذلك على حساب أقلياتٍ أخرى. في حين ظلّ العرب مسكونين بطوبا الدولة الأمة إلى الآن كما أشار المفكر المغربي عبد الله العروي. أفرزت تجربة البناء الوطني في تركيا نخباً ملتفةً حول هذا المشروع. وربما تضاهي التجربة التركية، بهذا المعنى، التجربة الايرانية، حيث يمتاز البناء الوطني بقوة النخب الوطنية والتفافها حول الدولة، باعتبارها ضماناً ووعاء لتجربة البناء الوطني.
ولكن، لا أحد ينكر أيضاً أن حركات الإسلام السياسي قد تكون وجدت حالياً في شخصية
علينا أن نعتز بانتمائنا، ونبحث عن تجذيره في تاريخه والابتعاد عن تسلف تاريخ غيرنا، حتى ولو كان عثمانياً، فالتاريخ يعاد ابتكاره، ومن حق النخب التركية، وهذا مشروع أيضاً في البحث عن نقطة البداية، أو العصر الذهبي الجدير بالاستعادة. لكن اللافت للانتباه أن الأتراك، وهم يستعيدون تاريخهم، فإنهم يبتكرون حاضراً، لا يقل أهمية من ذلك التاريخ، على خلاف نخبٍ عربية عديدة، إما تزدري تاريخها الإسلامي أصلاً، وترى فيه اختلالا ودماراً وتخلفاً أو تقدّسه إلى حد التأليه، فلا ترى فيه إلا مجداً تليداً، علينا أن نهجر إليه خلفاً، ولو بالسير خلفاً.
في تونس، من "يكرهون" تركيا وحكّامها، إنما يفعلون ذلك، لأنهم يرون في حزب العدالة والتنمية "نهضة" أخرى، في حين أن الحقيقة أكثر تعقيداً من "سياسة الكره" هذه. حين ضرب الإرهاب قبل أيام مطار اسطنبول، أبدى عديد من هذه النخب شماتةً، عبّر بعضهم عنها مباشرةً، حتى تمنى لها المزيد، ملمحين إلى تواطؤ الأتراك مع الجماعات الإرهابية في السنوات الفارطة. وقد يكون ذلك صحيحاً إذا علمنا أن الإرهاب هو أيضاً من ورقات السياسات الدولية، فيستعمل للضغط والابتزاز والمزايدة أحياناً، بقطع النظر عن القناعات الأيديولوجية والسياسية.
من يتوّهم أن سقوط أردوغان ونظامه في تركيا مؤذن بزوال حركات الإسلام السياسي وتراجعه في البلدان العربية يُسقط أهواءه أكثر مما يحلّل الظاهرة، فبعض هذه الحركات أقدم من ميلاد تركيا الحديثة.