تركيا والحراك الاحتجاجي في إيران

11 يناير 2018
+ الخط -
تميز الموقف التركي من حركة الاحتجاجات ضد النظام الإيراني بالحذر والتريث والانتظار، فلم يصدر في الأيام الأولى للمظاهرت أي موقف تركي رسمي، ثم مع اتساع رقعة الحراك وامتداده، أصدرت الخارجية التركية بياناً عبّرت فيه عن القلق من "تمدّد المظاهرات في إيران وإيقاعها قتلى"، ودعت إلى "تغليب الحكمة للحيلولة دون تصاعد الأحداث في إيران، وتجنب التدخلات الخارجية المحرّضة"، وإلى "تغليب المنطق لمنع أي تصعيد"، و"ضرورة تجنب العنف وعدم الانجرار وراء الاستفزازات، مع الأخذ بالاعتبار تصريحات الرئيس حسن روحاني في هذا الإطار، والتي أقر فيها بحق الشعب في التظاهر السلمي، لكن من دون انتهاك القوانين والإضرار بالممتلكات العامة".
وكان لافتا في البيان التركيز على دعم موقف الرئيس روحاني. وبعد ذلك، اتصل وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بنظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، وتناول معه الوضع في إيران، الأمر الذي اعتبرته الصحافة التركية بمثابة رد الجميل على اتصالات ظريف شخصياً مع المسؤولين الأتراك ليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا منتصف يوليو/ تموز 2016.
وخرج الموقف التركي عن الحذر الذي اتسم به في البداية، وتتوج بالاتصال الهاتفي للرئيس رجب طيب أردوغان بنظيره الإيراني، حسن روحاني، وأثنى فيه على تصريحات الأخير بشأن ممارسة الحق في الاحتجاج السلمي، مع الحرص على عدم انتهاك القانون، معتبرا أنها كانت "ملائمة"، وأكد له أن تركيا تولي أهمية للمحافظة على الاستقرار والسلم الاجتماعي في إيران. ثم توالت تصريحات المسؤولين الأتراك حيال الوضع في إيران، حيث دعا نائب رئيس 
الحكومة التركية والمتحدث باسمها، بكر بوزداغ، الحكومة والشعب الإيرانيين إلى التحرّك بحصافة، وحذر من "الفخاخ المنصوبة والتي ستنصب لهم". وأكد أنّ "تركيا تعارض تولي وتغيير السلطة عن طريق التدخلات الخارجية، أو استخدام العنف أو الطرق المخالفة للدستور والقوانين". ودعا إلى مواجهة التحريض والاستفزازات، والحفاظ على هدوء بلادهم وسلامتها واستقرارها، فيما اعتبر وزير الخارجية التركي أن المظاهرات في إيران يؤيدها شخصان، هما الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. واستنكر التدخل الخارجي في الشأن الإيراني الداخلي، مكرّراً قول روحاني إن الولايات المتحدة وإسرائيل أثارتا الاضطرابات في بلاده، وهو قول اعتاد المسؤولون الإيرانيون تكراره، كلما حدثت في بلادهم احتجاجات على ممارسات نظام الملالي وسياساته.
والملاحظ أن الموقف الرسمي التركي حيال الحراك الاجتجاجي في إيران ركّز على ثلاث نقاط أساسية. أولها دعم مواقف الرئيس روحاني، ويفهم منه أن القيادة السياسية التركية تعتقد أن هناك من يحاول في إيران من المتشدّدين وسواهم تحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع. وثانيها ضرورة المحافظة على استقرار إيران، أي دعم النظام السائد والمحافظة على استقرار الأوضاع فيها. وثالثها التركيز على العمل الخارجي في تأجيج الحراك الاحتجاجي، والمقصود الولايات المتحدة وإسرائيل اللتان تتآمران على النظام الإيراني.
واعتبرت الأوساط السياسية والإعلامية في المعارضة التركية أن الموقف الرسمي التركي مرتبك، وغير متماسك، ويعكس تخوفاً تركياً، بقدر ما هو موقف حيال ما يجري في إيران، لكن اللافت أن موقف أحزاب المعارضة لم يختلف عن موقف الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، حيث أعلن نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، أوزتورك يلماز، أن حزبه يقف مع إيران ضد الولايات المتحدة، وأن القوى الخارجية تحاول التحكّم في المنطقة، معتبراً أنهم "ضد أن تسرح أميركا وتمرح في هذه المنطقة، وأن تدير مصالحها من خلال الآخرين، لذلك نقف مع إيران"، واعتبر أن الاضطراب الذي سيُثار في المنطقة قد ينعكس على الداخل التركي. ورأى رئيس حزب الوطن والكاتب في صحيفة آيدينليك، دوغو برينتشاك، أن إيران، شعباً وحكومة، سيفشلان هذا "التمرد الأميركي".
وعلى الرغم من التأييد الرسمي، اعتبرت صحيفة يني شفق، المقرّبة من الحزب الحاكم في تركيا، أن ضحايا الشركات المفلسة شكلوا الغالبية العظمى من المواطنين المشاركين في الاحتجاجات الإيرانية، إذ حظيت المظاهرات بدعم الطبقات الفقيرة في المجتمع والمجموعات السياسية المعارضة. وشكلت المطالبة بتحسين الظروف المعيشية في البلاد والاحتجاج على الفقر والبطالة والأوضاع الاقتصادية السيئة الأهداف الرئيسية للمتظاهرين، إضافة إلى انتقاد البنية المتداخلة للسياسة الخارجية مع الاقتصاد في إيران. وأبرزت الصحفية شعارات المتظاهرين وهتافاتهم، وخصوصا المتعلقة بالسياسة الخارجية الإيرانية، مثل "لا تنفقوا أموالنا على سورية وغزة ولبنان"، و"الشعب صار متسولاً"، و"اتركوا سورية وشأنها واهتموا بأحوالنا"، و"لا لغزة، ولا للبنان، و"يسقط حزب الله"، و"لا نريد جمهورية إسلامية"، و"استقلال وحرية وجمهورية إيرانية".
وذهب الكتاب والباحثون الأتراك إلى تبيان أسباب الحراك الاحتجاجي في إيران، وتناولوا دور التدخلات الأجنبية فيها، وخصوصا الأميركية، حيث اعتبر الكاتب مليح ألتنوك، في مقال في صحيفة صباح التركية، "التحركات في الداخل الإيراني محرّكها الأصلي هو الوضع المرحلي في العالم والمنافسة بين الدول"، وتساءل عن "أي من الاضطرابات التي سعت إليها دائمًا الولايات المتحدة كانت فيها الديناميات الداخلية العامل الرئيسي"، معتبراً أن الولايات المتحدة أيدت الاحتجاجات، "ما أن خرج الإيرانيون إلى الشارع. في رأيكم هل تكترث الولايات المتحدة كثيراً لرخاء إيران والإيرانيين"؟
وفي السياق نفسه، اعتبر البرلماني السابق والكاتب، رسول طوسون، "أن القوى الخارجية، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، تريد من الاحتجاجات التي اندلعت في إيران إدخال هذا البلد في فوضى، كي تنتقم بواسطتها من المنطقة بأكملها". وعلى الرغم من رفضه السياسة الخارجية لإيران وتدخلاتها الإقليمية، إلا أن تركيا، حسب زعمه، لا تنظر إلى إيران، بوصفها "دولة شيعية"، ورفض إرجاع الموقف التركي الرسمي إلى تخوف من انتقال رياح الاحتجاجات إلى الداخل التركي، معتبراً أنه لا داعي لانتقالات ولا أسباب، ومذكّراً أن تركيا تعرّضت لأحداث مشابهة في 2013، خلال أحداث "غزي بارك" في اسطنبول، حيث صمدت تركيا، وأنهت "ألاعيب إمبريالية أميركية وإسرائيلية ضدها". في المقابل، اعتبر الباحث في مركز أبحاث الشرق الأوسط في جامعة سكاريا، مصطفى جانير، أن ترديد المحتجين في إيران شعارات مناهضة لروسيا، بدلا من الشعارات التقليدية المناهضة لأميركا وإسرائيل، يعكس غضب المتظاهرين من السياسات الإقليمية لبلادهم، وأن من الخطأ محاولة تفسير الأحداث الاجتماعية من خلال سبب واحد، فالاحتجاجات التي بدأت بدوافع اقتصادية تحولت بسرعة إلى مظاهراتٍ مناهضة للنظام، وتوقع أن الحكومة الإيرانية ستقمع المحتجين باستخدام القوة المفرطة ضدهم.
والواضح أن الموقف التركي من الاحتجاجات الشعبية الإيرانية محكوم بعدة عوامل، خصوصا 
بعد تخلي الولايات المتحدة والغرب عموماً، عن حليفهم التركي في المسألة السورية، وفي مجمل قضايا المنطقة، وعقد تحالفات مع عدوه اللدود، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، في سورية، الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، الأمر الذي اضطر تركيا إلى بناء تفاهماتٍ مع كل من روسيا وإيران، وإحداث انعطافةٍ في السياسة الخارجية التركية، إضافة إلى أنه على الرغم من التضارب الكبير في الرؤى والإيديولوجيات ما بين الساسة الأتراك والإيرانيين، والاختلاف في وجهات النظر بشأن معظم الملفات الكبرى في المنطقة، إلا أن البلدين نجحا في تأسيس شراكة إستراتيجية، قوية، على المستوى الأقتصادي خصوصا، حيث تمكنا من رفع حجم التبادل التجاري بينهما في السنوات القليلة السابقة، حتى تجاوز العشرة مليارات العام الماضي، ويطمحان إلى رفعه ليبلغ 40 ملياراً، الأمر الذي يفسر عدم تحمس أنقرة للدعم التغيير في إيران وتفضيلها الاستقرار فيها.
ولعل العامل الأهم في تحديد الموقف التركي حيال الأوضاع في إيران أن تركيا لا تريد أن تضحي بتفاهماتها مع إيران، سواء المتعلقة بمسار أستانة في القضية السورية، والوقوف بوجه قيام كيان كردي انفصالي في شمالي سورية، أم المتعلقة بالموقف من قضية استقلال كردستان. يضاف إلى ذلك أن القيادة التركية تدرك خطورة اشتعال الوضع في إيران، بوصفها بلداً متعدّد الإثنيات والمذاهب الدينية، ولن يستطيع أحد أن يسيطر على انفلات الوضع فيها إذا اشتعلت النيران، خصوصا أن هناك ملايين الأكراد في إيران إلى جانب الأتراك الأذريية وسواهم. لذلك، تعتقد قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم أن النيران إذا اشتعلت في طهران فهدفها التالي أنقرة، وهو ما تسعى إليه القوى الغربية، بعد أن أدخلت تركيا في دائرة الاستهداف. وبالتالي على القيادة السياسية التركية إبعاد الأخطار عن بلادها، وإبقائها مستقرة بعيدة عن مغامرات قد تنعكس سلباً على تركيا، وعلى الأتراك، وتركيبتهم الاجتماعية وحياتهم المعيشية.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".