تركيا تشتعل

31 اغسطس 2015

مواجهات بين أكراد والشرطة في ناحية باسطنبول (27 أغسطس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
قبل خمس سنوات، كان حزب العدالة والتنمية التركي يفاخر بسياسة "صفر مشاكل" التي نظّر لها رئيس الوزراء الحالي ووزير الخارجية السابق، أحمد داود أوغلو، باعتبارها استراتيجية أساسية في السياسة الخارجية التركية، سعت، من خلالها، إلى إنهاء مشكلاتها أو تحجيمها مع دول الجوار، وحتى في بعض الملفات الداخلية. أما اليوم، فيمكن القول إن هذه السياسة لم تعد قادرة على التعبير عن الأوضاع التركية، إذ إن المشكلات في كل صوب، داخلياً وخارجياً، وهي تتشابك مع بعضها، لتكوّن صورة عن أزمة تركية مشتعلة، لا تحظى بالتغطية اللازمة في وسائل الإعلام العربية، لكن هذا لا يقلّل من حجم هذه الأزمة التركية.
كشفت الانتخابات النيابية، في يونيو/ حزيران الماضي، عن أزمة حزب العدالة والتنمية، وقد كان، ممثلاً بشخص زعيمه رجب طيب أردوغان، يتطلع إلى غالبية تاريخية في البرلمان، تمكّنه من تحويل النظام التركي من برلماني إلى رئاسي. ولأجل هذا، حشد الحزب في الانتخابات، وخرق أردوغان التزامه الدستوري بالحياد بوصفه رئيساً للجمهورية، وشارك في حملة حزبه الانتخابية، لكن النتائج فاجأت الحزب وزعيمه، بفقدانه الغالبية البرلمانية، وهو هنا لا يفقد فقط الفرصة في إعادة صياغة النظام التركي، بل يفقد القدرة على تشكيل الحكومة منفرداً، كما كان يحصل منذ عام 2002، ما أثار استياء الحزب وأنصاره.
كما كان متوقعاً، لم تفلح المفاوضات في تشكيل ائتلافٍ حكومي، ويبدو أن "العدالة والتنمية" راهن، منذ البداية، على فكرة الانتخابات المبكرة، ويؤكد هذا الرهان عدم توجّه أردوغان إلى تكليف رئيس ثاني الأحزاب في الانتخابات (حزب الشعب الجمهوري) بتشكيل الحكومة، وفقاً للتقاليد الدستورية التركية، والدعوة إلى الانتخابات المبكرة، حتى قبل انتهاء المهلة الدستورية، والعداء السافر الذي يبديه أردوغان لحزب الشعوب الديمقراطي الذي سلب منه الأغلبية البرلمانية، إذ يحاول أردوغان ضرب الحزب بالحرب التي يعلنها على حزب العمال الكردستاني، واعتباره امتداداً لهذا الحزب "الإرهابي"، وبمناكفة رئيس الحزب، صلاح الدين دميرتاش، باستدعاء السلطات القضائية له، للتحقيق في اتهامات بالتسبب باضطرابٍ في النظام العام، والتحريض على العنف.
 
كان حزب الشعوب الديمقراطي مفاجأة الانتخابات، فقد تمكّن من الحصول على 13% من مقاعد البرلمان، وهو يشكل حالة أوسع حتى من التمرد الكردي في وجه أردوغان، إذ إنه بات يمثل حركات الاحتجاج الاجتماعي التي ترفض سياسات أردوغان، ولا تجد تمثيلاً سياسياً لها، مثل حركة الاحتجاج في ساحة تقسيم قبل سنتين. الحزب الذي يشكل واجهة للحالة الكردية، حرم العدالة والتنمية من تحصيل الغالبية، وما يريده أردوغان أن يدفع حزب الشعوب ثمن هذا الأمر، ويعود في الانتخابات المبكرة ليفشل في تجاوز "العتبة الانتخابية"، فيحصل على أقل من 10% من الأصوات، لتؤول الأصوات التي يحصل عليها لمصلحة الحزب، صاحب الكتلة البرلمانية الأكبر.
لم يستوعب أردوغان خسارته الأغلبية البرلمانية، وهو يقوم بمقامرة كبيرة لاستعادتها، تتمثل في خوض حرب داخلية وخارجية ضد القوى الكردية على اختلافها. في سورية، يشعر أردوغان بتهديدٍ يمثله تمدّد قوات حماية الشعب الكردية YPG على طول الحدود السورية التركية، وهو قلق من تكوّن حكم ذاتي أو استقلال كردي في الشمال السوري، وهذا أمر يقلقه أكثر من تنظيم داعش الذي يتراجع تحت ضربات القوات الكردية، ما يجعل أردوغان يُعوّل على حربٍ يخوضها ضد القوات الكردية، مع دعم حلفائه من القوى الإسلامية السورية، مثل أحرار الشام، للسيطرة على تلك المناطق، وقد جرى تفاهمٌ ما مع جبهة النصرة، لتُخلي مواقعها لصالح الجبهة الشامية. ويبدو أن تفاهماً تركياً أميركياً، يقضي بدخول تركيا في التحالف الدولي ضد داعش، في الوقت نفسه الذي تخوض تركيا فيه حربها الحقيقية ضد الأكراد، في حين لا تزال علاقتها بداعش محل استفهام، وقد تنكشف معلومات حولها في المستقبل القريب.
في العراق، يقوم الجيش التركي بتوغلات برية، وبضربات جوية، مستبيحاً الشمال العراقي، لضرب حزب العمال الكردستاني، كما يقصف الطيران التركي مناطق لحزب العمال، جنوب شرق تركيا، ويخوض مواجهات في تلك المناطق مع عناصر حزب العمال. ويهدف أردوغان من هذه الحرب إلى شد العصب القومي التركي، ضد الأكراد، والإضرار بحزب الشعوب الديمقراطي، للحصول على الأغلبية مجدداً، لكن هذه المقامرة، من أجل الفوز في الانتخابات، تأتي بنتائج عكسية، منها خسائر الجيش التركي في المواجهات، وإعلان حزب العمال الكردستاني الحكم الذاتي في بعض القرى جنوب شرق تركيا، بما يعني عمله لإنهاء السيطرة الحكومية عليها، ووصول عمليات حزب العمال إلى قلب اسطنبول، وتراجع الاقتصاد التركي، وهبوط الليرة التركية إلى أدنى مستوياتها أمام الدولار.
تشتعل تركيا، وهذه ليست تخرّصات، ونتائج المغامرة الأردوغانية لن تكون جيدة في كل الأحوال، فلو نجح في منع حزب الشعوب الديمقراطي من العودة إلى البرلمان، سيزيد النقمة الكردية، والاضطرابات في البلاد، ولو جاءت جولة الإعادة بالنتائج نفسها، ستكون خسارة كبيرة لحزب العدالة والتنمية، كما أن تزايد التدخل التركي المباشر في سورية والعراق سيرتد سلباً على الداخل التركي، سياسياً واقتصادياً، وسيدفع أردوغان ثمناً باهظاً لمغامراته.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".