لا زال مسؤولو حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، مهووسين بالعمل على الشعار الذي طرحه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لحملته الرئاسية وهو "تركيا الجديدة"، والذي يجب تحقيقه مع ذكرى مئوية تأسيس الجمهورية في العام 2023.
ومن الأسس التي تقوم عليها "تركيا الجديدة" أو "تركيا القوة العالمية"، إضافة إلى الاقتصاد القوي، هي الثنائية التالية "جيش وطني قوي وصناعات دفاعية قوية". وبدأت فكرة الصناعة العسكرية القومية تطفو على السطح كلازمة لا بد منها لكل قوة عالمية، وكأداة سياسية مهمة، إضافة إلى مشروع المفاعل النووي الثاني، الذي تعمل عليه شركات يابانية وفرنسية، والذي من المفترض أن يبدأ بإنتاج الطاقة الكهربائية مع ذكرى مئوية الجمهورية أيضاً.
وفرضت العودة إلى الشرق الأوسط على تركيا تغيير سياستها الدفاعية، بل وأدخلتها في حرب التسلح الجارية بين اللاعبين الإقليمين كالسعودية وإسرائيل وإيران، لتغدو جزءاً مهماً في الحرب الباردة الشرق الأوسطية التي لا تزال قائمة منذ عقود على قدم وساق.
وبعدما كانت معظم أنظمة التسليح التي يستخدمها الجيش التركي أميركية المصدر، عمدت تركيا خلال السنوات الأخيرة على الاعتماد على أنظمة تسلّح من دول أخرى منها: ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا وإسرائيل. وفي موازاة ذلك تقوم تركيا بإنشاء صناعاتها الدفاعية الخاصة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من ناحية صناعة الأسلحة، وهي تسعى أيضاً إلى الدخول في مشاريع إنتاج أسلحة وأنظمة تسليح مشتركة.
وكان الكاتب فكري توركل في صحيفة "يني شفق" المقرّبة من الحكومة، قد تساءل في مقال له، عن مكانة تركيا في سوق الصناعات الدفاعية العالمي التي تبلغ 1.5 تريليون دولار، والتي من المتوقع لها أن تصل إلى 2.5 تريليون في السنوات العشر المقبلة. وأشار إلى أن "المسؤولين الحكوميين أكدوا له بأنهم يسعون إلى أن تكون حصة تركيا في العام 2023 ما يقارب الـ25 مليار دولار".
يُذكر أن الصادرات الدفاعية التركية بلغت في العام 2008 حوالي 600 مليون دولار، لتتضاعف في نهاية العام 2012 وتصل إلى 1.2 مليار دولار، أما في العام 2013 فقد تجاوز عدد الشركات العاملة في المجال العسكري الـ500 شركة، لتُصدّر ما قيمته 1.5 مليار دولار، بينما من المتوقع أن تتجاوز قيمة الصادرات الدفاعية التركية في العام 2014 الـ1.8 مليار دولار.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد تحدث أمام البرلمان في خطاب تنصيبه رئيساً للجمهورية، مفاخراً بإنجازات حكومته في مجال الصناعات الدفاعية، قائلاً "إن تركيا تصنع الآن دباباتها الخاصة، وسفنها الحربية وطائراتها المروحية الهجومية والطائرات من دون طيار، وأقمار الاتصالات وبندقية المشاة الخاصة بها، وقاذفات الصواريخ والكثير من المعدات الدفاعية الأخرى".
ويعكس الإنفاق العسكري في تركيا أيضاً الاهتمام المتزايد بصناعات الدفاع، ووفقاً للبيانات التي قدّمها "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" عام 2013، فإن تركيا تحتل المرتبة الـ14 عالمياً في النفقات العسكرية بميزانية قدرها 19.1 مليار دولار.
أما عن وجهة صادرات السلاح التركي، فتتربع الولايات المتحدة على رأس الدول المستوردة للسلاح التركي بنسبة 39 في المائة، وتشمل على أجزاء طائرات ومروحيات وبرامج ومعدات الحرب الإلكترونية، تليها السعودية بحصة وقدرها 9.2 في المائة ومن ثم الإمارات والبحرين والعراق وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا ورواندا.
ولا تقتصر الصادرات التركية على الأجهزة والمعدات العسكرية، ولكن تشمل أيضاً الخدمات، وبحسب رئيس اتحاد "مصدّري الصناعات الدفاعية والفضائية" التركي أرال أليس، فإن تركيا تشارك في تطوير مشروع ماليزي لإنتاج سفن من دون قبطان، في الوقت الذي تسعى فيه إلى المزيد من الانفتاح نحو وسط وشرق آسيا وأفريقيا. ولفت إلى أن "أحد أهداف الاتحاد هو أن تحتل الصناعات الدفاعية البحرية التركية مرتبة متقدمة تُحوّلها إلى واحدة من الصناعات المفضلة للمستوردين في العالم".
وتُشكّل وكالة صناعات الدفاع التابعة لوزارة الدفاع التركية المحرك والدافع لنمو هذه الصناعات، وتُعتبر مركز صنع القرار فيما يخص الشؤون السياسية والاقتصادية والاستراتيجية المتعلقة بصناعات الدفاع، إذ استطاعت رفع قيمة العقود في السنوات الخمسة الماضية إلى 20 مليار دولار بزيادة وقدرها 85 في المائة. وتستهدف الوكالة الوصول إلى عائدات وقدرها 8 مليار دولار سنوياً في قطاع الدفاع والفضاء والوصول إلى صادرات بقيمة ملياري دولار.
وتدير الوكالة عدة مشاريع أهمها مشروع إنتاج مقاتلات الضربة المشتركة بقيمة 16 مليار دولار، ومشروع الطائرة المروحية "أتاك" بقيمة 3.3 مليار دولار، ومشروع إنشاء الغواصات الجديدة بقيمة 2.56 مليار دولار.
وباتت صناعة الدفاع التركية موضوعاً رئيسياً في النقاش السياسي في تركيا، فعلى المستوى الشعبي، يحب "الجمهور التركي"، الاستماع الى تقارير إنجازات صناعات الدفاع بل ويشعر بالكثير من الفخر بذلك، الأمر الذي يجيد حزب "العدالة والتنمية" استخدامه بشكل جيد للترويج لنفسه، خصوصاً في الدعايات الانتخابية.
وإذا كانت معظم دول العالم ذات الصناعات الدفاعية المتقدمة قد استخدمت ذرائع متعددة لزيادة استثماراتها في الدفاع، ومنها التهديد الذي يشكله "بعض الأعداء والمتآمرين الخارجيين والداخليين" على الأمن القومي أو "مكافحة الإمبريالية"، لكن ما يدفع الصناعات الدفاعية التركية الآن، هي أحلام العثمانية الجديدة التي تعمل على استرداد تركيا الجديدة لدور الدولة العثمانية كزعيم للعالم السنّي، وكقوة سياسية ذات نفوذ واسع في الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز.
إذ تعمل الحكومة التركية على استخدام صناعة الدفاع باعتبارها أداة مهمة في السياسة الخارجية، الأمر الذي أكده وزير الدفاع عصمت يلماز، مشيراً إلى عقود التدريب العسكري، واتفاقات التعاون التقني والعلمي التي تم توقيعها مع أكثر من 67 دولة حول العالم.
مع هذا تتعرض هذه الصناعات لانتقادات شديدة من قبل المعارضة التركية حول جدواها وشفافيتها، ففي كل دول العالم تتمتع هذه الصناعات بنوع من الحصانات والامتيازات، لكن في تركيا تهيمن شركات الدولة على هذه الصناعات، في الوقت الذي يديرها سياسيون أو بيروقراطيون تابعون أو موالون لحزب "العدالة والتنمية"، مما يسهّل عليها تجنب الرقابة الحكومية، إذ يدير وكالة صناعات الدفاع الآن المدير السابق لشركات الطيران التركية.
كما زادت الاتهامات في الفترة الأخيرة للحكومة بأنها تدفع أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة من الموالين لها للدخول في هذا المجال. أما فيما يخص الجدوى الاقتصادية من ورائها فلا زالت هناك الكثير من المخاوف حول ما قد تشكّله هذه الصناعات من أعباء إضافية على الميزانية من دون أي طائل حقيقي، في ظل تنامي واضح في عجز ميزانية وزارة الدفاع.