11 ابريل 2024
تركيا بين إقليمين كرديين
يثور السؤال ولا يخمد، حول مصير (ومآلات) المنطقة التي يديرها في سورية حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، أو ما يطلق عليها مناطق "الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة"، والتي باتت رقعةً تتسع باطراد، وتحظى باهتمام أميركا ومعاونيها في التحالف الدولي. إذ تلم المنطقة تلك، فيما تلمّه، مكونات المنطقة عرباً وأكراداً وسرياناً على عكس كردستان العراقية، حال أردنا المقارنة بين الإقليمين، فالأخيرة تمثل منطقةً كرديّة صرفة، خلا بعض البؤر الآشوريّة والعربية الصغيرة والضعيفة الأثر على فكرة إقامة كيان قومي واضح المعالم، والحال إن اتساع رقعة منطقة "الإدارة" وتمدّدها يأتيان على حساب القوميّة الكردية، في عملية تناسبٍ عكسي، حيث تزيد وتتضاعف الجغرافية التي يتمكّن منها حزب الاتحاد الديمقراطي، ومعها يتناقص عدد المحكومين الأكراد على حساب ازدياد منسوب المكوّن العربي. لكن، لا بأس، فالإحالة الأهم لدى الحزب هي وصل الجغرافية الكردية المتباعدة في خطوةٍ قد ترمي إلى إقامة حائط جيوسياسي على طول الشريط الحدودي التركي – السوري. وبذا، تزداد مخاوف تركيا الرسميّة من هذا المشروع الذي اعتبرته، في غير مناسبة، تصعيداً يهدّد أمنها القومي.
على الرغم من التطمينات والتصريحات الحصيفة والدقيقة التي يبديها ناطقو "الاتحاد الديمقراطي" حول مصير المنطقة، والتي تعرّفها بأنها ليست منطقة قوميّة، وأن زمن الدولة القوميّة قد ولّى، وأن الحزب لا ينطلق من قاعدةٍ قوميّةٍ كرديّة، ولا يرتبط بحزب العمال الكردستاني، وليست له أجندات رامية إلى تهديد أمن تركيا القومي أو وحدتها الترابيّة أو مصالحها الحيويّة، إلا أن الأتراك يرون الأمور من وجهة نظر مختلفة، ومن زاوية الاعتبارات القوميّة الصرفة، وعلى إيقاع العداء المستحكم بين تركيا والعمال الكردستاني.
لطالما رفضت تركيا الرسميّة، عبر تاريخٍ طويل، الاعتراف بالحقوق الكرديّة، سواء في تركيا أو في جوارها السوري أو الإيراني، وحتى العراقي حتى وقتٍ قريب، إلا أن صعوبة قبول تركيا بقيام كيانٍ كردي في كردستان العراق يبدو غير قابل للاستنساخ في غير منطقة كرديّة. ففي عام 1991 تدفّق ما يقارب مليون عراقي كرديّ إلى تركيا، هاربين من انتقام الجيش العراقي الذي بدأ باستخدام سلاح الجو انتقاماً من الانتفاضة الكردية التي قامت على إثر حرب الخليج الثانية، أو حرب تحرير الكويت، ولعلّ صورة حلبجة 1988 راودت الأكراد الفارين والمذعورين والهائمين في الدروب الموحلة والوعرة، صوب تركيا وإيران. حينذاك، صرح الرئيس التركي، تورغوت أوزال، مخاطباً العالم إنه ليس على استعداد لاستضافة مليون "معوز" في بلدٍ يشكو أوضاعاً اقتصاديّة صعبة، ووجوب إعادة اللاجئين إلى أراضيهم. بُعيد ذلك لم ترفض تركيا ودبلوماسيتها فكرة إعادة الأكراد العراقيين إلى كردستان العراق، تحت حماية القرار 688 الصادر من مجلس الأمن، والقاضي بإقامة (منطقة راحة)، أو ما عُرف بمنطقة الحظر الجوّي (خط العرض 36)، الأمر الذي اعتبره مراقبون السبب الرئيس في إقامة فيدراليّة كردستان العراق فيما بعد، ذلك أنها مثلت الكلمة المفتاحيّة في السماح للأكراد بإدارة مناطقهم وشؤونهم، بعيداً عن بغداد التي كانت تغط في مشكلاتها جنوباً، وفي إزاء ضغط وهجمة دولية تهدّد بإزالة النظام العراقي برمته.
في المقابل، حافظ أكراد العراق على نحو حذر على علاقاتهم مع الجمهوريّة التركيّة، على
الرغم من التعامل الفوقي والمتعالي التركي، كحال إعلان الإعلام التركي مراراً أنّ زيارات رئيس إقليم كردستان العراق وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البرزاني، والرئيس العراقي السابق وزعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، جلال الطالباني، مجرد زيارات ضيفين يمثلان عشائر كرديّة، وليسا ممثلين لأحزاب قوميّة كرديّة، إن لم نقل يمثلان القضية الكردية في العراق، وتخطّي الحكومة التركية أبسط المعايير والأعراف الدبلوماسيّة عند استقبال ممثلي الحركة الكردية في العراق، بشكلٍ ينم عن تعالٍ مكشوف.
مع وصول حزب العدالة والتنميّة إلى سدّة الحكم، ساد جوٌّ من الحميميّة التي صبغت العلاقة التركيّة – الكرديَّة العراقيّة بلونٍ جديد، تجلى ذلك بعمق ووضوحٍ، بعد سقوط نظام صدام حسين، والتفاهم المتبادل على قاعدة القبول التركي، مقابل حركة اقتصادية تركيّة نشطة في مجالات التجارة والعمران والمصارف والطاقة، معطوفاً الأمر على السعي إلى وقف الحرب التي يشنها العمال الكردستاني، انطلاقاً من أراضي الإقليم، الأمر الذي وسع مروحة العلاقة، وانطلاق فكرة الحوار التركي – الكردي الداخلي لاحقاً.
في إزاء جهود "العدالة والتنمية"، يمكن أن يُعزى أمر التفاهم الكردي التركي إلى الجهود التي نجح خلالها مسعود البرزاني عبر ربطه عجلتي الاقتصاد الكردي الناهض بالتركي، بشكلٍ مشيميِّ ومتكامل، بل سعى الجانبان إلى استبدال الخطاب القومي التركي والكردي الكلاسيكي بآخر أقلّ حدّةً، تطغى عليه لمسة المنفعة المتبادلة ولغة المصالح الاقتصاديّة والاستثمارات العملاقة، ولعلّ المفارقة الكبيرة الآن أن المنطقة الوحيدة التي تقيم علاقة حسنة مع الحكومة التركيّة هي حكومة إقليم كردستان.
في الأثناء، تبلغ علاقة العمال الكردستاني بالحكومة التركية أسوأ مراحلها، مع اشتداد المعارك داخل تركيا، ومع تشييد إدارة ذاتيّة، ترى فيها تركيا عقبة كأداء أمام أفكار، إن لم نقل مشاريع تركيا الاستراتيجية التي يفهم منها شيء ما يفيد، بأن تركيا عازمة على التمدّد جنوباً، صوب جغرافيا "أهل السنّة العرب" في سورية، فوق ذاك تمثّل الإدارة الذاتية مثالاً ملهماً لأكراد تركيا، أشدَّ وطأة ودفعاً من تجربة أكراد العراق.
لا يمكن، في أي حال، المطابقة بين حالتي كردستان العراق وحال "الإقليم الناشئ" ذي الصبغة الكردية في الشمال السوري، وسيبقى الأمر الغالب على الظن أن تركيا ستسعى إلى تثبيط، ثم إيقاف العمل المجدّ الذي يقوم به فريق "الإدارة الذاتيّة الديمقراطية"، من خلال سلّة سياساتٍ، تبدأ بالتصالح المفتوح مع إيران وروسيا، وصولاً إلى مغازلة النظام السوري، والسعي إلى تجديد الخيارات إزاء القوى الدوليّة، كأميركا وحلفائها التي تدعم المقاتلين الأكراد في مسار الحرب ضد داعش.
لن تستقبل تركيا الأنباء الواردة من جنوب حدودها الطويلة مع سورية، كما كانت تستقبل أخبار تقدّم كردستان العراق نحو الفيدراليّة، أي بكثيرٍ من غض الطرف والصبر والترقّب، ذلك أن السعي التركي الدبلوماسي، والانعطافات السياسيّة التركيّة الكبيرة، تشي بأمرٍ واحد ومكشوف، عنوانه: كل الجهود نحو إيقاف المشروع القومي الكردي جنوب حدود الجمهوريّة التركيّة، في مقابل عناد ومثابرة كرديين، لتحقيق أضعف إيمان، ربما قد نسميه منطقة مختلطة إثنيّاً برأس كردي كبير.
على الرغم من التطمينات والتصريحات الحصيفة والدقيقة التي يبديها ناطقو "الاتحاد الديمقراطي" حول مصير المنطقة، والتي تعرّفها بأنها ليست منطقة قوميّة، وأن زمن الدولة القوميّة قد ولّى، وأن الحزب لا ينطلق من قاعدةٍ قوميّةٍ كرديّة، ولا يرتبط بحزب العمال الكردستاني، وليست له أجندات رامية إلى تهديد أمن تركيا القومي أو وحدتها الترابيّة أو مصالحها الحيويّة، إلا أن الأتراك يرون الأمور من وجهة نظر مختلفة، ومن زاوية الاعتبارات القوميّة الصرفة، وعلى إيقاع العداء المستحكم بين تركيا والعمال الكردستاني.
لطالما رفضت تركيا الرسميّة، عبر تاريخٍ طويل، الاعتراف بالحقوق الكرديّة، سواء في تركيا أو في جوارها السوري أو الإيراني، وحتى العراقي حتى وقتٍ قريب، إلا أن صعوبة قبول تركيا بقيام كيانٍ كردي في كردستان العراق يبدو غير قابل للاستنساخ في غير منطقة كرديّة. ففي عام 1991 تدفّق ما يقارب مليون عراقي كرديّ إلى تركيا، هاربين من انتقام الجيش العراقي الذي بدأ باستخدام سلاح الجو انتقاماً من الانتفاضة الكردية التي قامت على إثر حرب الخليج الثانية، أو حرب تحرير الكويت، ولعلّ صورة حلبجة 1988 راودت الأكراد الفارين والمذعورين والهائمين في الدروب الموحلة والوعرة، صوب تركيا وإيران. حينذاك، صرح الرئيس التركي، تورغوت أوزال، مخاطباً العالم إنه ليس على استعداد لاستضافة مليون "معوز" في بلدٍ يشكو أوضاعاً اقتصاديّة صعبة، ووجوب إعادة اللاجئين إلى أراضيهم. بُعيد ذلك لم ترفض تركيا ودبلوماسيتها فكرة إعادة الأكراد العراقيين إلى كردستان العراق، تحت حماية القرار 688 الصادر من مجلس الأمن، والقاضي بإقامة (منطقة راحة)، أو ما عُرف بمنطقة الحظر الجوّي (خط العرض 36)، الأمر الذي اعتبره مراقبون السبب الرئيس في إقامة فيدراليّة كردستان العراق فيما بعد، ذلك أنها مثلت الكلمة المفتاحيّة في السماح للأكراد بإدارة مناطقهم وشؤونهم، بعيداً عن بغداد التي كانت تغط في مشكلاتها جنوباً، وفي إزاء ضغط وهجمة دولية تهدّد بإزالة النظام العراقي برمته.
في المقابل، حافظ أكراد العراق على نحو حذر على علاقاتهم مع الجمهوريّة التركيّة، على
مع وصول حزب العدالة والتنميّة إلى سدّة الحكم، ساد جوٌّ من الحميميّة التي صبغت العلاقة التركيّة – الكرديَّة العراقيّة بلونٍ جديد، تجلى ذلك بعمق ووضوحٍ، بعد سقوط نظام صدام حسين، والتفاهم المتبادل على قاعدة القبول التركي، مقابل حركة اقتصادية تركيّة نشطة في مجالات التجارة والعمران والمصارف والطاقة، معطوفاً الأمر على السعي إلى وقف الحرب التي يشنها العمال الكردستاني، انطلاقاً من أراضي الإقليم، الأمر الذي وسع مروحة العلاقة، وانطلاق فكرة الحوار التركي – الكردي الداخلي لاحقاً.
في إزاء جهود "العدالة والتنمية"، يمكن أن يُعزى أمر التفاهم الكردي التركي إلى الجهود التي نجح خلالها مسعود البرزاني عبر ربطه عجلتي الاقتصاد الكردي الناهض بالتركي، بشكلٍ مشيميِّ ومتكامل، بل سعى الجانبان إلى استبدال الخطاب القومي التركي والكردي الكلاسيكي بآخر أقلّ حدّةً، تطغى عليه لمسة المنفعة المتبادلة ولغة المصالح الاقتصاديّة والاستثمارات العملاقة، ولعلّ المفارقة الكبيرة الآن أن المنطقة الوحيدة التي تقيم علاقة حسنة مع الحكومة التركيّة هي حكومة إقليم كردستان.
في الأثناء، تبلغ علاقة العمال الكردستاني بالحكومة التركية أسوأ مراحلها، مع اشتداد المعارك داخل تركيا، ومع تشييد إدارة ذاتيّة، ترى فيها تركيا عقبة كأداء أمام أفكار، إن لم نقل مشاريع تركيا الاستراتيجية التي يفهم منها شيء ما يفيد، بأن تركيا عازمة على التمدّد جنوباً، صوب جغرافيا "أهل السنّة العرب" في سورية، فوق ذاك تمثّل الإدارة الذاتية مثالاً ملهماً لأكراد تركيا، أشدَّ وطأة ودفعاً من تجربة أكراد العراق.
لا يمكن، في أي حال، المطابقة بين حالتي كردستان العراق وحال "الإقليم الناشئ" ذي الصبغة الكردية في الشمال السوري، وسيبقى الأمر الغالب على الظن أن تركيا ستسعى إلى تثبيط، ثم إيقاف العمل المجدّ الذي يقوم به فريق "الإدارة الذاتيّة الديمقراطية"، من خلال سلّة سياساتٍ، تبدأ بالتصالح المفتوح مع إيران وروسيا، وصولاً إلى مغازلة النظام السوري، والسعي إلى تجديد الخيارات إزاء القوى الدوليّة، كأميركا وحلفائها التي تدعم المقاتلين الأكراد في مسار الحرب ضد داعش.
لن تستقبل تركيا الأنباء الواردة من جنوب حدودها الطويلة مع سورية، كما كانت تستقبل أخبار تقدّم كردستان العراق نحو الفيدراليّة، أي بكثيرٍ من غض الطرف والصبر والترقّب، ذلك أن السعي التركي الدبلوماسي، والانعطافات السياسيّة التركيّة الكبيرة، تشي بأمرٍ واحد ومكشوف، عنوانه: كل الجهود نحو إيقاف المشروع القومي الكردي جنوب حدود الجمهوريّة التركيّة، في مقابل عناد ومثابرة كرديين، لتحقيق أضعف إيمان، ربما قد نسميه منطقة مختلطة إثنيّاً برأس كردي كبير.
دلالات
مقالات أخرى
19 فبراير 2023
10 ابريل 2022
17 فبراير 2022