تركيا: استقالات تضعضع صفوف المعارضة

09 نوفمبر 2014
توقعات بانشقاقات جديدة عن حزب كلجدار أوغلو (فرانس برس)
+ الخط -

تتصدّر استقالة أحد أهم وجوه حزب "الشعب الجمهوري"، النائب عن مدينة أنقرة، أمينة أولكر ترهان، من منصبها الحزبي، وكذلك استقالة النائب عن ولاية إسكي شهير، سهيل باتون، صدارة المشهد التركي، مع عودة الحديث عن ضعف المعارضة السياسية في تركيا وحالة الإرباك التي تعيشها.
وتأتي الاستقالتان قبل الانتخابات البرلمانيّة المقرّرة في شهر يونيو/حزيران من العام المقبل، وفي وقت تُتهم فيه المعارضة بسوء إدارتها للعمليّة السياسيّة منذ سنوات، الأمر الذي ساعد حزب "العدالة والتنمية" في السيطرة على الحكم، لأكثر من عقد من الزمن.

ولم تمر استقالة ترهان من دون انتقادها أداء حزبها، وهو أكبر الأحزاب المعارضة في تركيا، فأشارت في بيان أصدرته عقب تقديم استقالتها، إلى أنّها "اكتفت ووصلت إلى نتيجة، مفادها بأنّ قيادة الشعب الجمهوري لا تزال مصرّة على الاستمرار في أدائها السياسي الغريب، الذي يسهم في اتخاذ قرارات قاتلة، منفصلة تماماً عن الشعب التركي". وبررت استقالتها بأنّها "لم تعد تريد البقاء أكثر من ذلك، جزءاً من سياسات ضعيفة وخاطئة من الحزب".

وفي حين لم يُغفل باتون توجيه انتقادات شديدة، مؤكداً مساندته ترهان، توقّع أن "يشهد حزب الشعب الجمهوري استقالة برلماني كل أسبوع، لهزّ كيان الحزب"، لافتاً إلى "وجود أكثر من 20 نائبا في صفوفه يعارضون سياساته الحالية". ويوضح أنّ "هؤلاء كانوا ينوون أن يقدموا مرشحاً خاصاً بهم للرئاسة، بعد اعتراضهم حينها على ترشيح أكمل الدين إحسان أوغلو".
ويُعتبر كل من ترهان وباتون، من النواب الكماليين القوميين المتعصّبين، ومن النواب الذين لا يرون لهم أي دور سوى الحفاظ على مبادئ الجمهوريّة التي أنشأها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923، على أنقاض السلطنة العثمانيّة، إثر هزيمة الحرب العالمية الأولى.

وكانت ترهان من بين الأعضاء الذين عبّروا عن معارضة شديدة لترشّح أكمل الدين إحسان أوغلو عن الشعب الجمهوري للرئاسة، لما رأته في الرجل المتديّن المحافظ من مخالفة صريحة لمبادئ العلمانيّة الكماليّة. ووصفت ترشيح الأخير بأنّه "خطوة يائسة من قبل إدارة الحزب لجذب أصوات المحافظين الأتراك"، وهو الأمر الذي أثبتت صناديق الاقتراع صحّته، بعد خسارة إحسان أوغلو، الذي تلقّى دعم أكثر من خمسة أحزاب معارضة، في حين فاز أردوغان بأكثر من 52 في المائة من الأصوات، على الرغم من التنازل الكبير الذي قدّمه "الشعب الجمهوري".
وتحظى ترهان، المعروفة بقوّة شخصيّتها، بتأييد الكثير من المناصرين المعجبين بما تشكّله هذه المرأة، ذات الشعر الأشقر والتي لا تضع الماكياج، ولا تقبل التفاوض على مبادئها، من نموذج مميز في الجمهوريّة التركية، حيث مشاركة المرأة السياسيّة لا تزال ضعيفة.

ولم يجد زعيم الحزب الجمهوري، كمال كلجدار أوغلو، أمامه إلا خيار تجنّب التعليق على استقالة ترهان، مكتفياً بإبداء أمنياته السعيدة للأخيرة، على الرغم من التبعات الكبيرة المترتّبة عن هذه الاستقالة، على التيار القومي داخل الحزب، والذي تُعتبر ترهان أحد صقوره. وكان كلجدار أوغلو، وصل إلى زعامة الحزب، بموجب انتخابات أعقبت استقالة سلفه، دينيز بايكال، قائد التيار القومي في الحزب إثر فضيحة جنسيّة، ليبدأ ما أطلق عليه "حملة إصلاحات واسعة"، أسفرت عن رفع أصوات الحزب بأكثر من 20 في المائة في الانتخابات البلديّة الأخيرة.

وبدأ الحزب، منذ أكثر من عامين، بتبنّي سياسات جديدة تهدف إلى جذب أصوات كل من المحافظين الأتراك وأيضاً الأكراد، في جنوبي وشرقي البلاد، بعد خسارته لأهم قلاعه، وهي ولاية تونجلي "ديرسيم"، مسقط رأس كلجدار أوغلو، لصالح حزب "السلام والديمقراطية الكردي"، والذي شكّل قبل حلّه، الجناح السياسي لحزب "العمال الكردستاني".

وتراوحت هذه السياسات بين الاعتراف بالوجود الكردي في تركيا، ومن ثم تغيير الموقف من المعارضة الشرسة التي لا تقبل النقاش بعملية سلام مع "العمال الكردستاني" إلى القبول بها، لكن تطالب بمشاركة البرلمان في إدارتها، وصولاً إلى زيارة كلجدار أوغلو قبيل الانتخابات الرئاسية لمدينة ديار بكر، معقل الحركة القوميّة الكرديّة، معترفاً بأخطاء "الشعب الجمهوري" في الماضي. ودعا الأكراد إلى التصويت له، مؤكداً أنّ الشعب الجمهوري ليس هو ذاته الذي ارتكب الكثير من المجازر بحقّ الأكراد في الثلاثينيات.

وتغيّرت أيضاً توجّهات الحزب تجاه المحافظين، الذين أثبتوا أنّهم باتوا يشكلون الكتلة الانتخابيّة الساحقة في الأعوام الأخيرة. بدا الحزب أقلّ حدّة تجاه سماح الحكومة التركية بارتداء الحجاب ضمن المدارس والثانويات التركية، لكنّ ترشيح إحسان أوغلو كان محاولة فاشلة لجذب أصواتهم، خصوصاً أنّهم لا يجدون مبرراً ملحاً لتخليهم عن حزب "العدالة والتنمية". وتمكّن الأخير من تحقيق نهضة اقتصاديّة، غيّرت وجه البلاد، على حساب حزب "الشعب الجمهوري"، الذي يمتلك تاريخاً حافلاً في التمييز العنصري والتحالف مع العسكر، ضدّ أي تيّار سياسيّ إسلاميّ.
ولم تثمر كل هذه "الإصلاحات" في تحقيق أي زيادة في الكتلة الانتخابيّة لحزب "الشعب الجمهوري"، بل على العكس أفقدته الكثير من أصوات قاعدته العلمانيّة والقوميّة لصالح أحزاب أخرى، وهو ما بدا واضحاً في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة.

وفي موازاة التكهّنات الكثيرة حول انشقاق محتمل في صفوف "الشعب الجمهوري"، من قبل التيّار القومي المتعصّب، لكن هذه الاستقالات، حتى الآن، ليست كافية لتكوين حزب جديد سيسعى إلى دخول الانتخابات النيابيّة المقبلة.