الترجمة ممكنة مع قصدية بسيطة. على سبيل المثال كان فلاديمير وِيْدْلِي يقول لي، بلهجة دعابة، إنَّ قصيدةَ بودلير: "لمْ أنْسَ بِجِوَارِ المدينة..." هي قصيدةٌ تعيدُ إنتاجَ أصوات بوشكين، ولها شفافيتها، وهي أفضل "الترجمات" لكن، هل يمكن اختزالُ قصيدةٍ في شفافيتها؟ عن سؤال هل ثمة إمكانٌ لترجمةِ قصيدةٍ ما، الجواب هو: لا، تُطرَحُ تعارضات عديدة لا يمكن توضيحُها، إذ يجب التخلّي عن أشياء عدَّة.
لديّ كمدخل مثالٌ يتعلق بحادثٍ من التجربة الشخصية، فمع قصيدة Sailing to Bizantium لويليام بتلر ييتس، يمكن أن يكون العنوانُ: "الإبحار نحو بيزنطة" ["أن تبحر نحو بيزنطة"]؟ لكن ذلك مستحيلٌ. كلمة "Sailing" لها دينامية الفعل. والقول "إلى بيزنطة" سيكون مثيراً للسخرية: الأسطورة تقصي تلك الاختزالات. وأخيراً، "to sail" تعبّر بالإضافة إلى ذلك عن فكرة الرحيل، فكرة البحر الذي يجب عبوره، هو صعبٌ وهائج، وخلفه توجد فكرة الميناء بعيداً: تجارةٌ وأشغالٌ وأعمالٌ وطبيعةٌ تمَّ التغلّبُ عليها. لا شيءَ مما يمكن أن تتم إعادة إنتاجه من خلال "إبحارنا"، وها هو يصير قديماً "استعمال الشراع"، لأجل قطع نفس المسافات.
لترجمة هذه العبارة، اكتفيت بـ"بيزنطة-الضفة الأخرى"، فلربما يتم إنقاذ توتّر ما، لكن ليس بنفس الطاقة والاقتلاع (المحلوم بهما على الأقل) اللذين يعبّر عنهما الفعل. ومثلما يحدث عادة انطلاقاً من لغة شكسبير نحو تلك اللغة التي ما تزال تعاني من استبداد فرانسوا ماليرب (يَقصِد الفرنسية - المترجم)، يغدو المعيشُ لازمنياً، واللاعقلانيُّ يصير مدركاً بالعقل. لكن ييتس يتحدّث ضمن وحدانية اللحظة واستعجالها، وذاك هو ما يجب أن يتم الوفاء له أولاً وقبل كل شيء.
يوجد تناقضٌ عميقٌ عند ييتس جِدُّ ثابتٍ في نصّه مثلما هو مُخصِبٌ على امتداد أعماله، لكنه لا يملك إلا أن يضيع في اللسان الفرنسي الذي لا يقدِّمُ لتلك الكلماتِ أيَّ إنجازٍ مُمَاثِلٍ: وبشكل عام، يمكن القول بأن اللغات لا تمتلك "انتصاراتها" في النقاط ذاتها. الترجمة يجب أن تنتقل إلى سطحٍ مَا حتى وإن كانت تستطيع أن تمتلك عُقَدَهَا الخاصَّةَ في مكانٍ آخرَ.
نِعْمَ الحَدثُ، لأن قصيدةً مَا، هي أقلُّ من الشِّعر، ومن الأفضل لنا أن نستغني عنها، إنها حافز. إن قصيدةً مَا -عددٌ محدود من الكلمات وفق نظامٍ معيّنٍ فوق الصَّفحة- هي شكل يتم فيه إلغاء العلاقة مع الآخر ومع المتناهي: ما هو حقيقي.
والمؤلِّف يستطيع أن يستمتع به، إنه مُطْمئنٌّ ومِنَ المُمتع أن يخلق المرء أشياء تستديم، لكن سرعان ما يظهر الندم من خلال الدخول في تناقض مع مكانِ وزمنِ التبادل الحقيقي. نِصْفٌ، ذاك هو القصيدة، فرضية من الذهن وليس نهاية. نشرُها إثباتٌ، زمنٌ لإمعانِ الفكرِ يمنحُهُ المَرْءُ لذاتِه لكنَّه لا يعني قبوله، وجعله مطلقاً.
والقارئ الأمثل هو على النحو ذاته، ذاك الذي يعشقُ القصيدة. أجَل، مع أنه ليس ممكناً عِشْقُ كائنٍ فقط بالأخذ بعينِ الاعتبارِ القِيَمَ التي يُبديها والمعاني التي يحملها. فعبادة الأوثان لا تجد متسعاً لها في المكتوب، لكن وبالمثل لا يمكن قبولُ الكراهيةِ المُحطِّمَةِ للأيقونات، بل بالأحرى إن الشفقة، شكلٌ من أشكالِ الوُجودِ المُتَقاسَم. لكن، حينئذٍ، يا لها من كارثة! كل ذلك "الثَّراءِ" النَّصِّي، التباساتِه وتنغيماتِه وتعدُّدِ معانيهِ اللفظيةِ، إلخ، يُحْرَمُ من الحق في أن يفرض علينا كلماته المتقاطعة. لكن، وللتعويض عن ذلك، نمتلك ما لا نستطيع الإمساك به والقبض عليه: شعر لغات أخرى.
فلنعرف كيف ننظر بالفعل إلى ما يُبَرِّرُ القصيدةَ، ولنعرف كيف نبعثُ الفعل الذي، في الآن نفسه، قد أنتجها والذي فيه تغرق، منفصلين عن ذلك الشكل الثابت الذي ليس إلا أثراً للقصيدة، القصدُ والحدسُ الأولان (لِنَقُلْ تَطلُّعٌ وهاجسٌ، شيْءٌ كونيٌّ) يمكنهما مجدداً أن يُجَرَّبا في لغة أخرى، وبشكلٍ بَعْدُ ما يزالُ أكثر أصالةً مع بروز الصعوبة نفسها فيها: لغةُ الترجمةِ تشلُّ مثل تلك اللغة الأولى المُسائلة التي هي كلام.
صعوبة الشعر تكمن في كونِ اللغةِ نظاماً بينما الكلمة الشعريَّة حضورٌ. لكن فهْمَ ذلك هو لقاءٌ مع المُؤلِّفِ الذي نترجمه ونحن نتلقى بشكلٍ أفضلَ الاستبداداتِ التي يعانيها، وحركاتِ فكرِهِ التي تُصارعُ أضدادها والوفاء الذي نحن مدينون به إليه، لأن الكلمات ستحاول أن تخدعنا، أن ترهننا إلى طريقتها في الكينونة. تتحوَّلُ مِنْ مُساعدةٍ على الترجمة الجيدة التي بدأتْ، إلى مُدافعةٍ عن القصيدةِ السَّيِّئةِ التي صَارَتْ إليها، ستختزلُ التجربة لفائدةِ نصٍّ ما، يجب الارتيابُ والتحقق من الحاجة الوجودية لصورنا الجديدة بعيداً عن تشابُهِها، كلمةً كلمةً (خارجيَّة إذن)، مع صور القصيدة الأصلية.
عملياً، لا يمكن للترجمة أن تكون نسخة ولا يمكن لها أن تكون تقنية، بل هي مساءلةٌ وتجربةٌ، لا يمكنها أن تُسَجَّلَ - تُكْتَبَ- إلا في ديمومةِ حياةٍ، ومنها ستكتسبُ كلَّ ملامِحِها، وكل أفعالِها، وذلك لا يقتضي، من جانب آخر، أن يكون المترجمُ "شاعراً"، لكن يترتبُ عنه وبشكلٍ مؤكدٍ، إن كان هو الآخرُ يكتبُ ألا يستطيعَ فصْلَ ترجماتِهِ عن أعماله الشَّخصيَّةِ. وبعض الأمثلة عن تلك التبعية الترابطية الشخصية، إذ إنها ليست البتة من دواعي الكبرياء ولا المفاخرة بها (ولا القلق: وقائع تافهة لا تستحق إلا أن تُؤخَذ كعلاماتٍ دالةٍ).
إنَّ التتمة المنطقية لهذه التأملات يجب أن تكون في مساءلتي لذاتي عما ساعدتني فيه ترجماتي، وكيف ساهم شعر اللغات الأخرى في مستقبل شعرنا. سأثير قضية أولية أخرى فقط: في أيِّ شروط لا يكون هذا النمط من الترجمة، ترجمة الشعر، مشروعاً أخرق؟
هكذا فهم أن الفقر وسيلة في الشعر. التجربة التي لم نعِشْها هي الأخرى كذلك لأننا أحياناً قمعناها في دواخلنا، والترجمة التي يتحدثُ فيها شاعرٌ، يمكن أن تفلتَ من الرقابةِ، هي شكلٌ من أشكالِ المساعدةِ التي أقولُ إنّها تُقدّمُ مسَاهمَة، وتُحرِّرُ طاقةً. إن افتتانَنا سيكون هو الذي قادنا، لكن بالطبع يجبُ علينا فقط أن نتبعَهُ. فكلُّ عملٍ لا يُطالبُنا بشيءٍ هو عملٌ غير قابلٍ للترجمة.
* ترجمة مع بعض الاختصار: خالد الريسوني