07 نوفمبر 2024
ترامب والطفل "صغير العقل"
التقليد ميلادي، سنوي، في الولايات المتحدة، تنظَمه مؤسسة نوراد، العسكرية الجوية: الرئيس ترامب وزوجته ميلانيا يجلسان منفصلَين، كلٌ على كرسي وثير، إلى جانب كل منهما طاولةٌ صغيرةٌ عليها هاتف ثابت، وحولهما غابةٌ من أشجار الميلاد، يقومان بوظيفة عمال الهاتف؛ إذ يُفترض بهما ربط الأطفال المتّصلين بسنتا كلوز (المعروف عندنا بالبابا نويل)، فيساعدونهم على "تعقّب" هداياه، و"الفوز" بها.
كل شيء عادي حتى الآن، بما فيه قعْدة السيدة الأولى، الأنيقة الناعمة، الخالية من تعابير الوجه؛ وقعدة زوجها المنْتفخ، بلا حرَج بروتوكولي... وفجأة يطلع صوت ترامب، ونسمعه يقول على الهاتف لواحدٍ من الأطفال الموعودين بالهدية، وبنبرة تتصنّع الذكاء: أما زلتَ تؤمن بسنتا كلوز؟ ثم ينتظر بضع ثوان، لا يصبر عليها، ليضيف باستهزاء: هذا أمر نادر لدى الأولاد الذين بلغوا السابعة من العمر... أليس كذلك؟ ثم يُضحك نفسه، ساخراً، ناصحاً، كأنه أنجح صفقةً مع مقاول صغير، مليونير: اسمع.. استمتع بوقتك.
لم يمنع ترامب ذيوع الشريط على "يوتيوب"، كما لم يمنع سابقاً نشر سخافاته على الهواء مباشرة. وسمح بذلك لكارهيه بأن ينهالوا عليه بالشتائم والاستغباء؛ مرة يصفونه "الأحمق"،
ومرة أخرى عديم "اللياقة" أو "الكياسة"، الذي "حطّم أحلام طفل صغير". وما إلى هنالك من أوصافٍ باتتْ لصيقةً به، منذ انتخابه رئيسا للولايات المتحدة. وذلك باستهجانٍ وقلق، يوازي ما انتاب شقا من الرأي العام العالمي كله، من قدرة ترامب على تحطيم أشياء أخرى في العالم، من دون أن يرفّ له جفن، بل بالعكس، بتبنّي عباراتٍ ونبراتٍ ووقفاتٍ ولغات جسد.. كلها لا تنبئ إلا بنوايا تخريب هذا العالم، فوق خرابه.
ولكن، هذه المرّة، غير المرات السابقة، كان الاستنكار شعبياً، لا رسميا ولا إدارياً، والقليل إعلامياً. مجرَّد مواطنين يسخطون على شيءٍ عزيز حميم، لم تنل منه عهودٌ سابقة؛ بل الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في الوقت نفسه، تقصَّد أن ينشر على "يوتيوب" شريطاً، نراه فيه ينوء تحت صرّة ضخمة، على رأسه قبعة سانتا كلوز الحمراء والبيضاء، يدخل مستشفىً للأطفال، ويستقبله هؤلاء بهَيْصة الموعودين، بدورهم، بالهدايا، ثم يوزّعها عليهم تباعاً.. راسماً بذلك الصورة النقيض، صورة الرئيس الحريص على أحلام الطفولة.
المهم، أنه بعد الاستهجان، يأتي المنطق. ترامب لا يستطيع أن يكون محطِّماً معلناً للعالم، بكل فجواته ومساوئه، من دون أن يكون في مكانٍ ما في وعيه أو لا وعيه، يزْدري فيه الطفولة؛ وكأن طفولته لم تكُن سوى تعاسةٍ بتعاسة، على الرغم من ملايين أبيه، أو ربما بسببها: طفلٌ لم يعرف نداوة الأحلام، شبّ على صراع المصالح الضيقة، ثم الأموال الواسعة، واختزن طاقة على الشرور، تُرجمت على كَبر، بنوع من الـ"نيرونية" (نيرون) غير الآبهة إلا بالدولارات "الكاش"، نقداً وعدّاً.
يجهل ترامب سحر الميلاد. يريد له أن يكون "واقعياً"، أي منزوعاً من الأحلام. يزيّن منزله، البيت الأبيض، بما يفيض لمَعَاناً، يحترم الأجندة الميلادية الرئاسية، فيظهر هنا وهناك، معيّداً، مهنئاً، مصفِّقاً لنفسه.. ولكن قلبه ليس ميلادياً. قلبه شقي، مع أنه هو الشرير العلني رقم واحد اليوم على كوكبنا؛ يتلذّذ بقساوة الحياة، بانعدام وعودها، بتسليمها للأقوياء. قلبه شقي، من النوع الذي ينغلق على قوته، مصدر "سعادته"؛ والتي تعني شيئا آخر، غير الذي نأنس به، نحن الهامشيين من بين البشر.
تباً لترامب، وللذين يقلّدونه من بيننا. تباً للذين لا يتكرّمون على الأطفال بلحظات رجاء، تنير دربهم، بسحر الهدية، والشجرة المزَّينة، والتلهُّف على وصول البابا نويل، والخوف من الاقتراب منه في البداية، ثم الانجذاب إلى كرشه الكبير ولحيته البيضاء وهندامه، ووعده بالهدية.. سحر الميلاد ما بعده سحر. الذين عاشوا طفولتهم مطبوعين بذكراه، بعطر الكرم والحب اللذين يفوحان منه، يعلمون أنهم بهذا الخزين قد أثثوا دواخلهم بالحكايات والمسَرّات والألوان والضحكات.
وهذه ليست ترّهات حالمين رومنطيقيين. إنما من صميم الواقعية، من صميم التشاؤم "المعتدل" بهذه الحياة. الأطفال سوف يتعرّفون، عاجلاً أم آجلاً، على مزاجية قسوة تلك الحياة. وسوف تصيبهم عدوى هذه القساوة، وتنْطبع على تقاسيم وجوههم. ولن يحميهم من قتل براءتهم سوى فرحات طفولتهم؛ يبقون الطفل حياً في سرائرهم، لكي يكون القدرُ إلى جانبهم، مهما تقلّب وانقلب، مهما تراقصت وتيرتُه على أنغام الاعتباط.
لم يمنع ترامب ذيوع الشريط على "يوتيوب"، كما لم يمنع سابقاً نشر سخافاته على الهواء مباشرة. وسمح بذلك لكارهيه بأن ينهالوا عليه بالشتائم والاستغباء؛ مرة يصفونه "الأحمق"،
ولكن، هذه المرّة، غير المرات السابقة، كان الاستنكار شعبياً، لا رسميا ولا إدارياً، والقليل إعلامياً. مجرَّد مواطنين يسخطون على شيءٍ عزيز حميم، لم تنل منه عهودٌ سابقة؛ بل الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في الوقت نفسه، تقصَّد أن ينشر على "يوتيوب" شريطاً، نراه فيه ينوء تحت صرّة ضخمة، على رأسه قبعة سانتا كلوز الحمراء والبيضاء، يدخل مستشفىً للأطفال، ويستقبله هؤلاء بهَيْصة الموعودين، بدورهم، بالهدايا، ثم يوزّعها عليهم تباعاً.. راسماً بذلك الصورة النقيض، صورة الرئيس الحريص على أحلام الطفولة.
المهم، أنه بعد الاستهجان، يأتي المنطق. ترامب لا يستطيع أن يكون محطِّماً معلناً للعالم، بكل فجواته ومساوئه، من دون أن يكون في مكانٍ ما في وعيه أو لا وعيه، يزْدري فيه الطفولة؛ وكأن طفولته لم تكُن سوى تعاسةٍ بتعاسة، على الرغم من ملايين أبيه، أو ربما بسببها: طفلٌ لم يعرف نداوة الأحلام، شبّ على صراع المصالح الضيقة، ثم الأموال الواسعة، واختزن طاقة على الشرور، تُرجمت على كَبر، بنوع من الـ"نيرونية" (نيرون) غير الآبهة إلا بالدولارات "الكاش"، نقداً وعدّاً.
يجهل ترامب سحر الميلاد. يريد له أن يكون "واقعياً"، أي منزوعاً من الأحلام. يزيّن منزله، البيت الأبيض، بما يفيض لمَعَاناً، يحترم الأجندة الميلادية الرئاسية، فيظهر هنا وهناك، معيّداً، مهنئاً، مصفِّقاً لنفسه.. ولكن قلبه ليس ميلادياً. قلبه شقي، مع أنه هو الشرير العلني رقم واحد اليوم على كوكبنا؛ يتلذّذ بقساوة الحياة، بانعدام وعودها، بتسليمها للأقوياء. قلبه شقي، من النوع الذي ينغلق على قوته، مصدر "سعادته"؛ والتي تعني شيئا آخر، غير الذي نأنس به، نحن الهامشيين من بين البشر.
تباً لترامب، وللذين يقلّدونه من بيننا. تباً للذين لا يتكرّمون على الأطفال بلحظات رجاء، تنير دربهم، بسحر الهدية، والشجرة المزَّينة، والتلهُّف على وصول البابا نويل، والخوف من الاقتراب منه في البداية، ثم الانجذاب إلى كرشه الكبير ولحيته البيضاء وهندامه، ووعده بالهدية.. سحر الميلاد ما بعده سحر. الذين عاشوا طفولتهم مطبوعين بذكراه، بعطر الكرم والحب اللذين يفوحان منه، يعلمون أنهم بهذا الخزين قد أثثوا دواخلهم بالحكايات والمسَرّات والألوان والضحكات.
وهذه ليست ترّهات حالمين رومنطيقيين. إنما من صميم الواقعية، من صميم التشاؤم "المعتدل" بهذه الحياة. الأطفال سوف يتعرّفون، عاجلاً أم آجلاً، على مزاجية قسوة تلك الحياة. وسوف تصيبهم عدوى هذه القساوة، وتنْطبع على تقاسيم وجوههم. ولن يحميهم من قتل براءتهم سوى فرحات طفولتهم؛ يبقون الطفل حياً في سرائرهم، لكي يكون القدرُ إلى جانبهم، مهما تقلّب وانقلب، مهما تراقصت وتيرتُه على أنغام الاعتباط.