في الأعوام الأخيرة، تُسجَّل مخاوف في إيران على خلفية تراجع نسبة المواليد فيها. وتُقام نقاشات في الأوساط الرسمية والأكاديمية والإعلامية بحثاً عن حلول لوقف هذا الهبوط في النموّ السكاني، مع تساؤلات حول الأسباب، في حين أفادت بيانات رسمية أخيرة بأنّ تراجع نسبة المواليد في البلاد يتواصل على أن يبلغ 14.5 مولوداً لكلّ ألف نسمة، وهي الأدنى منذ خمسين عاماً.
والبيانات صادرة عن المجلس الأعلى للثورة الثقافية المعنيّ برسم سياسات البلاد في المجالات الثقافية والمجتمعية والتعليمية. وقد أوضح المجلس في تقرير نشره، قبل نحو شهر، حول واقع النموّ السكاني والولادات في إيران خلال الشهور الستة الأولى من العام الإيراني الجاري (1398) الذي ينتهي في العشرين من مارس/ آذار المقبل، أنّ الأرقام الحديثة حول المواليد تظهر أنّ معدّل المواليد الذي يتراجع منذ عام 2015 يواصل مساره هذا بوتيرة متسارعة تقريباً، إذ هبط في العام الماضي بنسبة ثمانية في المائة بالمقارنة بعام 2017، وسُجّل بالتالي 16.7 مولوداً لكلّ ألف نسمة.
وبحسب تقرير المجلس الأعلى للثورة الثقافية، فإنّ التقديرات تشير إلى تراجع النسبة في العام الإيراني الجاري إلى 14.5 مولوداً لكلّ ألف نسمة، علماً أنّ معدّل الولادات في الشهور الستة الأولى من هذا العام يظهر هبوطاً بنسبة 13 في المائة بالمقارنة بالفترة نفسها من العام الذي سبق، مع 92 ألف مولود. وتابع التقرير نفسه أنّ عدد المواليد سيبلغ بحسب التقديرات مليوناً و205 آلاف و954 مولوداً مع نهاية العام الإيراني.
تجدر الإشارة إلى أنّ عدد سكان إيران، بحسب آخر الإحصاءات، تجاوز 83 مليون نسمة خلال العام الإيراني الجاري، بنسبة نموّ بلغت واحداً في المائة فقط، وسط توقعات بأن تستمرّ بالانخفاض في الأعوام المقبلة. وما يزيد من قلق إيران بشأن تراجع نموّها السكاني هو تصدّرها الدول التي تسجّل تراجعاً حاداً في نسبة الخصوبة حول العالم، بحسب ما جاء في تقرير لوكالة "فارس" الإيرانية نشرته في 24 ديسمبر/ كانون الأول المنصرم. أضافت الوكالة أنّ إيران فقدت خلال عشرين عاماً أكثر من 70 في المائة من نسبة الخصوبة، مشيرة إلى أنّ هذا التراجع وصل إلى حدّ يشير إلى توقّع هبوط عدد سكان البلاد إلى أقلّ من 60 مليون نسمة في عام 2041.
ولعلّ أبرز التبعات السلبية لتراجع المواليد، هبوط نسبة الشباب في المجتمع الإيراني، الأمر الذي دفع السلطات المعنيّة إلى إطلاق تحذير بهذا الشأن. وفي هذا الإطار، أشارت بيانات مركز الإحصاء الإيراني بمناسبة "اليوم الوطني للسكان" في 20 مايو/ أيار، إلى أنّ عدد الشباب الإيراني كان يُقدّر بنحو 23 مليون نسمة في عام 2011، لكنّه تراجع إلى نحو 20 مليوناً في عام 2016 وإلى 18 مليوناً و269 ألفاً في عام 2019. أمّا الشيخوخة في المجتمع، فازدادت بنحو ثلاثة أضعاف النموّ السكاني، ويُشار هنا إلى أنّ مأمول الحياة وصل خلال العقود الأربعة الأخيرة إلى 74 عاماً.
وعند البحث عن العوامل التي أدّت إلى تراجع النموّ السكاني في إيران، نجد جملة أسباب أبرزها السياسات السكانية التي اتخذتها الدولة بعد انتهاء الحرب الإيرانية العراقية في عام 1989، والتي قضت بتنظيم الأسرة الإيرانية وتشجيع تحديد النسل انطلاقاً من قناعة بأنّ التزايد السكاني المستمر يشكّل عقبة أمام تطوّر البلاد. وبهدف حثّ العائلات الإيرانية على تحديد النسل، انتشرت لافتات في الشوارع وكذلك إعلانات في وسائل الإعلام تقول صراحة: "ولد أقلّ عيش أفضل". وأتت هذه السياسة السكانية في مواجهة الطفرة أو الانفجار السكاني في البلاد خلال العقود التي سبقت، إذ ارتفع عدد السكان من 19 مليوناً في عام 1956 إلى 50 مليوناً في عام 1986. لكن بعد تنفيذ السياسات السكانية الجديدة، تراجع الإنجاب وتبعاً لذلك النموّ السكاني خلال عقدَين، بشكل لافت وغير مسبوق. وقد هبطت مؤشّرات الخصوبة والإنجاب إلى النصف في عام 2005، وتراجعت نسبة النموّ من 3.2 في المائة إلى 1.5 في المائة، ومؤشّر الخصوبة من 6.5 أولاد أحياء لكلّ امرأة في عام 1986 إلى أقلّ من ستّة أولاد أحياء لكلّ امرأة في عام 2005.
إلى جانب تلك السياسات، تأتي أسباب أخرى، ربما هي الأكثر أهمية اليوم ويمكن تلخيصها بعنوان "التحولات الاجتماعية" التي طرأت على المجتمع الإيراني خلال العقود الثلاثة الماضية. ولعلّ أبرز مظاهرها الانفجار السكاني في المدن بعد النزوح إلى الحياة الحضرية، وتراجع الزواج في مقابل ارتفاع الطلاق، والتأخّر في الإنجاب، ارتفاع سنّ الزواج، والمشكلات الاقتصادية، والتحوّل في القناعات، ودخول النساء في مجالات العمل مواكبة للرجال، وغيرها من العوامل. وبعدما أدّت العوامل مجتمعة إلى تراجع حاد في النموّ السكاني بإيران، الأمر الذي دفع إلى اعتباره "أزمة سكانية"، ألغت السلطات السياسات السكانية الداعية إلى تحديد النسل وتنظيم الأسرة واستبدلتها في عام 2014 بسياسات جديدة شجّعت من خلالها الأسرة الإيرانية على الإنجاب ووقف تحديد النسل. وأتت هذه السياسات في 14 بنداً تحت عنوان "السياسات السكانية الشاملة"، فدعت إلى إزالة عوائق الزواج والترويج لنمط الحياة الإيرانية الإسلامية وزيادة الخصوبة. بالتالي، راح الإعلام الرسمي يكثّف في الأعوام الأخيرة دعواته الأسرة الإيرانية إلى كسر عادة تحديد النسل لا بل إلى زيادته. لكنّ البيانات الحديثة التي نشرها المجلس الأعلى للثورة الثقافية حول هبوط النموّ السكاني إلى أدنى مستوى له منذ خمسين عاماً، خلال هذا العام، تشير إلى أنّ السياسات الجديدة ليست مجدية وأنّ النموّ السكاني في إيران ما زال يخضع للعوامل المذكورة آنفاً، في مقدّمتها التحوّلات الاجتماعية ومظاهرها.