أظهرت بيانات خاصة بمصلحة الجمارك في الجزائر، أن العجز في الميزان التجاري، خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الحالي 2016، بلغ قرابة 16 مليار دولار، وذلك مقارنة بنفس الفترة من عام 2015.
وأتت هذه النتيجة كإحدى الثمار السلبية لأزمة انهيار أسعار النفط، وذلك نظرًا لأن الجزائر بلد نفطي عضو في منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك".
وتعد المؤشرات الاقتصادية السلبية التي شهدتها الجزائر منذ نهاية عام 2014 - ومن بينها زيادة العجز في الميزان التجاري- كاشفة عن خلل بنية الاقتصاد، وأنه اقتصاد ريعي يفتقد إلى وجود قاعدة إنتاجية في مجالات الصناعة والزراعة، لذلك تنكشف معاملاته الخارجية مع كل أزمة تحدث في أسعار النفط بالسوق الدولية.
ورغم العوائد النفطية الضخمة التي حظيت بها الجزائر منذ عقود، إلا أنها لم تنجح في الانتقال باقتصادها من مصاف الدول النامية إلى مصاف الدول المتقدمة، أو حتى الدول الصاعدة. في حين نجد أن الدول الصاعدة لم تتوفر لها الوفرة المالية الذاتية التي توفرت للجزائر خلال الفترة الماضية، كما هو الحال في كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وتركيا، على سبيل المثال.
وإن كانت الدولة الجزائرية تتذرع بمواجهة جماعة العنف خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، إلا أن الفورة النفطية الثالثة والخاصة بالفترة من 2003 إلى 2014 سمحت لها بوجود احتياطيات من النقد الأجنبي تجاوزت 200 مليار دولار، وهو ما يضع القائمين على أمر صناعة السياسات الاقتصادية والتنموية أمام المساءلة الاجتماعية والسياسية، خاصة أن معدلات البطالة ظلت مرتفعة في الجزائر خلال الفترة الماضية، حتى وصلت مؤخرًا إلى حدود 15%، بينما تصل بين الشباب إلى 20%، فضلًا عن غياب العزم على إيجاد اقتصاد متنوع يؤمّن البلاد ضد التقلبات الخارجية الملازمة لطبيعة السوق الدولية للنفط.
ويمكننا إجراء قراءة تحليلية للبيانات المنشورة عن أداء التجارة الخارجية للجزائر، لنقف على مواطن الخلل في ناتجها المحلي الإجمالي، ونتناول ذلك في ما يلي:
خلل التجارة الخارجية
تُظهر بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2015، أن الناتج المحلي الإجمالي للجزائر بلغ 220 مليار دولار في 2014، وأن نصيب قطاع الإنتاج السلعي من هذا الناتج بلغ 111.8 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 50.4%.
لكن عند تحليل طبيعة مساهمات الأنشطة المختلفة داخل قطاع الإنتاج السلعي، نجد أن قطاع الصناعات الاستخراجية يتصدر مساهمات الأنشطة الإنتاجية بقيمة 55 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 25% من الناتج المحلي الإجمالي، ثم نشاط التشييد بقيمة 23 مليار دولار، وبنسبة 10.4%، ثم نشاط الزراعة 22.7 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 10.3%، ثم قطاع الصناعات التحويلية بقيمة 8.9 مليارات دولار، وبما يمثل نسبة 4% فقط من الناتج.
وتفسر لنا هذه الأرقام طبيعة أداء التجارة الخارجية، التي تعتمد بشكل رئيس على صادرات النفط والغاز، وكذلك زيادة الاعتماد على استيراد الغذاء، وأن الاقتصاد فقير في مجال الصناعات التحويلية التي تميز الاقتصاديات المتقدمة عن الاقتصاديات النامية.
حيث إن التقدم في هذه الصناعات يمثل مساهمة القيمة المضافة لأي اقتصاد، وعادة ما تعكس الصناعات التحويلية طبيعة التكنولوجيا المستخدمة في الإنتاج، فكلما كانت الدولة لديها رصيد أكبر من استخدام التكنولوجيا المتقدمة، كلما زادت مساهمة صناعتها التحويلية في قيمة الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى نفس النفط، تراجعت الواردات السلعية للجزائر إلى 38.5 مليار دولار خلال نفس الفترة، مقارنة بـ 43.4 مليار دولار خلال نفس الفترة من 2015، وبذلك تراجعت الواردات السلعية بنحو 4.5 مليارات دولار، وبنسبة 11.3%.
يعكس هيكل الصادرات السلعية للجزائر الخلل في بنية ناتجها المحلي الإجمالي، فصادرات النفط والغاز بلغت 21.3 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 93.7%، بينما الصادرات السلعية غير النفطية بلغت 1.4 مليار دولار، وبما يمثل 6.3% فقط.
ولنا أن نتخيل غياب الصادرات النفطية، فهل من المقبول أن تكون صادرات دولة عدد سكانها يقترب من 40 مليون نسمة بحدود 1.4 مليار دولار؟
في حين بلغت صادرات المواد الغذائية 6.7 مليارات دولار خلال الأشهر العشرة الأولى من 2016، وبلغت واردات المواد الخام 1.2 مليار دولار، ولذلك وجدنا أن دور الصناعات التحويلية بالمساهمة في الناتج من أقل الأنشطة الإنتاجية.
وحين تعتمد الدولة بشكل رئيس على استيراد الغذاء، فإن ذلك يعني أن درجة اعتمادها على الخارج كبيرة، ويكرس لمزيد من التبعية، فالواردات الغذائية تمثل 17.4% من إجمالي الواردات خلال الفترة، كما أن قلة قيمة واردات المواد الخام تدل على تراجع حركة الصناعة في الجزائر، وأنها تعتمد على استيراد السلعة تامة الصنع.
وتكريسًا لوضع الاقتصاد الجزائري ضمن الاقتصاديات النامية، نجد أن هيكل الواردات لا يزال يتضمن جانبًا كبيرًا من استيراد العدد والآلات، ولا يتم إنتاجها في الداخل، فقد بلغت قيمة الواردات الخاصة بآلات ومعدات القطاعين الصناعي والزراعي نحو 13 مليار دولار خلال الفترة، وبما يمثل نسبة 33.7%.
ويدلل هذا الأمر على أن الجزائر لا تنتج العدد والآلات ومستلزمات الصناعة وقطع الغيار، وهو ما يزيد من استيراد التكنولوجيا وعدم إنتاجها، وبقاء الجزائر رهينة الاستهلاك التكنولوجي، وهي سمة لازمة للاقتصاديات النامية، ومن بينها الجزائر.
أيضًا تتسم التجارة الخارجية للجزائر بالتركز في الدول الأوروبية بشكل رئيس، ففي جانب الواردات تحتل 4 دول أوروبية -بالإضافة إلى أميركا - النصيب الرئيس من استقدام الصادرات الجزائرية المتمثلة في النفط والغاز.
أما على صعيد الواردات فتتقدم الصين لتحتل المرتبة الأولي بينما يعقبها أربع دول أوروبية كذلك للاستحواذ على نصيب الأسد من إجمالي الواردات للجزائر. ومن هنا فالتجارة الخارجية للجزائر لا تتميز بالتنوع الجغرافي، ولكنها شديدة التركز.
المتابع لأداء سوق النفط، يلحظ أنه يمر بموجات من الانخفاض الشديد يستمر لنحو عشر سنوات، ثم تبدأ موجة تعاف أخرى تسترد فيها الأسعار قيمتها ثم ترتفع بشكل كبير، وهكذا. وتكرار هذا الأمر لم تتعلم منه الاقتصاديات النفطية العربية شيئا، فهي تنسجم مع هذا الأداء هبوطًا وصعودًا، من دون أن تغير من أدائها التنموي.
ويعد التحدي حاليًا أمام الحكومة الجزائرية أن تخوض غمار مشروع تنموي، يخرجها من دوامة الريعية، والاعتماد على الخارج، إلى منظومة تستطيع أن توظف مواردها البشرية البالغة نحو 40 مليون نسمة، وما تبقى لها من أرصدة من عوائد النفط، وكذلك احتياطياتها من النفط والغاز، في بناء قاعدة إنتاجية بقطاعي الزراعة والصناعة، وأن تعمل على توطين التكنولوجيا وتطويرها وإنتاجها.
وبلا شك، فإن مشروعاً تنموياً في الجزائر يستلزم أن تشهد البلاد تجربة ديمقراطية حقيقية، تعظّم من سيادة دولة القانون، ووجود دور قوي للبرلمان للمراقبة والمتابعة، ومكافحة الفساد، والالتزام بالشفافية.