مضى نحو ستة أشهر على استعادة النظام السوري السيطرة على مدينة تدمر بريف حمص الغربي، من يد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وتسببت المعارك وقتذاك بتهجير أهالي المدينة الذين كان يزيد عددهم عن 100 ألف مدني، ونحو 40 ألف نازح كانوا لجأوا إلى المدينة هرباً من القصف والأعمال العسكرية والجرائم الروسية من مختلف المناطق السورية. غير أن أهالي تدمر لا يزالون، إلى اليوم، موزعين على طول البلاد، في حين يقطن المدينة اليوم بضع مئات الأشخاص في ظل أوضاع إنسانية واقتصادية سيئة، إضافة إلى مجموعات من المليشيات الموالية لنظام بشار الأسد والقوات النظامية.
وكعادته حاول النظام في تدمر، عقب سيطرته عليها، القول إنه أعاد الحياة إلى المدينة، حالها حال المناطق التي سبق أن أحكم قبضته عليها، في ظل خلوها من أهلها الذين هربوا خوفاً من بطش النظام والعمليات العسكرية. ونقلت وسائل إعلامه وبعض الوسائل الإعلامية الأخرى، الروسية خصوصاً، والتي لا تختلف في الكثير من طرق عملها، عن الإعلام البعثي الكاريكاتوري بمهنيته، تقارير عن وجود مدنيين في المدينة. وبدت تدمر، بعدسات كاميرات التلفزيونات الروسية، كأنها عاصمة غربية مرفهة بلقطات مشاهد الأوبرا وحفلات الموسيقى الكلاسيكية التي أدتها فرق روسية، مع إصرار حسناوات روسيات، من زوجات لجنود الاحتلال الروسي المتواجدين في سورية، على التقاط صورهنّ وهنّ مسرورات بإحدى أقدم المدن في العالم. لكن كذب الإعلام الروسي، وهو يحاول أن يوحي بأن كل شيء صار على ما يرام في تدمر، مفضوح بالنسبة إلى كل السوريين إلا من يؤيد النظام، لذلك يدرك العالم كله أن الصور الآتية من تدمر في ظل الاحتفالات الروسية خصوصاً، لم تكن سوى تضليل إعلامي يجري على بعد كيلومترات قليلة من مذابح يمارسها النظامان السوري والروسي.
يقول أحد المقاتلين ضمن المليشيات الموالية للنظام إن "حافلات نقلت مئات المدنيين إلى المدينة حيث تم تصويرهم، وعقب مغادرة وسائل الإعلام، غادروا المدينة لتعود خالية تماماً من المدنيين". سلوك يجيد النظام ممارسته في كل استحقاق يأتي بالإعلام لتغطيته، وهو ما سبق أن فعله عشرات المرات أكان في انتخابات صورية أم في استفتاءات مضحكة مبكية مثلما فعل في مدينة الزبداني في استفتاء 25 فبراير/شباط 2012 حين أتى بحافلات من المناطق المجاورة ليتم تصويرهم في ساحة العانة على أنهم سكان الزبداني وهم "يتهافتون لممارسة حقهم الديمقراطي".
في سياق متصل، تقول مصادر محلية في المدينة إن "الأهالي مجبرون على التعامل مع القوات النظامية، لأنهم بحاجة إلى أن يعيشوا في بيوتهم ومدينتهم ويخلصوا من رعب الإيجارات في المدن، وهم الذين يحملون قهرهم منذ أن كانوا نازحين في مناطق النظام". وأضاف أنه يمكن تصنيف الأهالي ضمن ثلاث فئات: "الأولى هم الفقراء، وهم الأكثر عدداً، والذين عادوا إلى تدمر ليخلصوا من هم مصاريف الإيجار وغيرها؛ الثانية فئة متسلطة ومحسوبة على النظام، وهي أصحاب رؤوس الأموال؛ الثالثة وهي من أجبرها النظام على العودة من موظفين ومدرسين وطلاب". وتشير المصادر إلى أن "أهالي تدمر المهجرين من مدينتهم لا يستطيعون العودة إليها، خوفاً من بطش النظام، واتهامهم بأنهم كانوا حاضنة لـ"داعش" مثلاً"، موضحةً أن هؤلاء "ينتشرون اليوم في مناطق الشمال السوري، منهم 30 ألف نازح موزعون بين إدلب وريفها وريف حلب، والبقية في الرقة وريف دير الزور". وتلفت، في المقابل، إلى أن الحياة المعيشية لهؤلاء تبدو "مقبولة نوعاً ما بسبب نشاط المنظمات والجمعيات في الشمال، إلا أن المشكلة الرئيسية عندهم هي إيجارات البيوت وانعدام فرص العمل، في ظل تقصير الجهات المسيطرة على تلك المناطق".
ويعتبر غالبية النازحين في مخيم الركبان على الحدود السورية الأردنية، البالغ عددهم نحو 80 ألف شخص، من أهالي تدمر والسخنة والقريتين ومهين وحوارين في ريف حمص الشرقي بالعموم. وهؤلاء يعانون من أوضاع إنسانية غاية في السوء، إذ تعتبر الخدمات الطبية والمواد الغذائية والمياه منخفضة جداً. ويعيشون في خيام بدائية ويمنع دخولهم إلى الأردن. ويعيشون على المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة عبر الأراضي الأردنية بين الحين والآخر. وبعض الأموال التي تأتيهم كتبرعات تتيح لهم شراء ما يتوفر من مواد آتية من الشمال أو مناطق النظام لكن بأسعار مرتفعة جداً.
ويمكن القول إن حال مدينة تدمر يشابه العديد من المناطق التي سيطر عليها النظام، ضمن سياسته المعتمدة على إخلاء المناطق المناهضة له من أهلها، في إطار الضغط عليهم، ليكون هو في النهاية الخيار الأفضل والقبول بالعيش تحت سطوته.
وكان النظام السوري قد اعتمد منذ سنوات على سياسة الحصار والتجويع الممنهج، للمناطق المناهضة له، في وقت ظهرت فيه فصائل المعارضة إلى حد بعيد عاجزة عن تأمين احتياجات الأهالي، في ظل الحصار والقصف المتواصل، فيما يبدو أن هناك سياسة تفريغ لجميع جيوب المعارضة في المناطق المتاخمة لمواقع النظام في دمشق وريفها وحمص.