تدخل عسكري روسي لملء "الفراغ"

26 سبتمبر 2015
+ الخط -
تم التدخل الروسي المباشر في سورية بضوء أميركي برتقالي. قوبلت التسريبات الصحفية الإسرائيلية المبكّرة عن نقل طائرات وقوات ومعدات روسية إلى اللاذقية وطرطوس بصمت أميركي، فلما أصبح التدخل تحت الضوء، جاء الرد الأميركي خافتاً، فواشنطن مع محاربة داعش، الهدف المعلن للتدخل الروسي، بأية طريقة، وباتت تمنحها الأولوية على ما عداها. لكن، لم تمض أيام، حتى تغيّر الهدف الروسي المعلن، وأصبح بدلاً من محاربة داعش "الحفاظ على الدولة السورية"، كما أوضح بوتين لدى استقباله نتنياهو في الكرملين، وفي لقائهما الثنائي، جرت طمأنة تل أبيب على أنها ليست مستهدفة، ولن يقع احتكاك روسي إسرائيلي في الجو، وأن جبهة الجولان لن تُفتح. وقد أثار ذلك بعض القلق الأميركي، كما في تصريحات متكررة للوزير جون كيري، من أن تكون مهمة القوات الروسية تأمين الأسد، غير أن هذا القلق الطفيف لم يبلغ حد الاعتراض الصريح على التدخل الروسي. وقد تركت المسائل الفنية المتعلقة بتحركات قوات التحالف والتحركات المنتظرة للقوات الروسية لاتصالات عسكرية، تتم بعيداً عن الأنظار. وعلى كل حال، هناك سابقة "مشجعة"، فقوات "الدولة السورية" لم تصطدم، أو تحتك، بطائرات التحالف على مدى عام، وهذا أمر مرشح للتكرار مع تحركات القوات الروسية. إذ تنهمك قوات "الدولة السورية"، بلا توقف، في قصف المدنيين في حلب ودير الزور وحمص وريف دمشق ومناطق أخرى، وفي قصف فصائل المعارضة المختلفة، وتتخلل ذلك طلعات جوية ضد داعش في تدمر شرق البلاد. 

مع انقضاء النصف الأول من العام الجاري، وصل الوضع الميداني إلى نقطة حرجة. فالنظام يخسر المزيد من المناطق، ما يتطلب تقديم دعم نوعي له، يتخطى الدعم الذي يقدمه حزب الله والمليشيات العراقية والإيرانية والأفغانية، أو أن يتم تقديم دعم نوعي لفصائل المعارضة في مواجهة الطائرات، كي تحقق مزيداً من المكاسب. وبما أن واشنطن وأصدقاء آخرين لسورية دأبوا على مراقبة الوضع عن بُعد، والاستغراق في التأمل، وضاعت بوصلتهم بين محاربة داعش أو الضغط على النظام، فكان أن حزم الكرملين أمره، وسط هذا الفراغ، لكي يتقدم بنفسه، مُستبقاً ذلك بستار كثيف من محادثات نشطة مع المعارضة السورية في موسكو، تبشر بشق الطريق نحو حل سياسي. ما حمل بعض أطراف هذه المعارضة على القول إن تغيراً قد بدأ يطرأ على المواقف الروسية.
التدخل الروسي يراه غربيون مشابهاً لاقتحام أوكرانيا التي تجرأ شعبها على نشدان التغيير، بما قد لا يتوافق مع رؤية القيادة الروسية لمصالح بلادها. تجرأ السوريون أيضاً على مثل ذلك. وبالنسبة إلى موسكو بوتين، فإن الجيوش المدعومة من موسكو هي التي تصنع التاريخ، وليس
الشعوب، والأخيرة يمكن الاستغناء عنها. فموسكو ليس لها علم باقتلاع ملايين السوريين من ديارهم، وبملايين أخرى، تئن تحت وطأة الحصار في الداخل، ولا بالمتسبب بذلك، ولا تعنيها عودة المشردين إلى موطنهم. عقيدة عدم التدخل العسكري الأميركي، ولو بجندي واحد، التي يعتنقها باراك أوباما شجعت الكرملين على اعتناق عقيدة مضادة. القوات الروسية الحالية، مثل نظيرتها السوفييتية سابقاً، تدافع عن الجيوش المحكومة من حزب حديدي، في وجه الشعوب، وتلجأ في سبيل ذلك إلى القوة الماحقة الساحقة، على غرار الحملة الروسية على غروزني، قبل نهاية القرن الماضي.
من حق السوريين، بل من واجبهم، أن يتشاءموا من هذا التطور، فالأمور تتجه إلى مزيد من التعقيد، وإذا كان مئات الآلاف قد سقطوا بأسلحة روسيةٍ، استخدمها النظام على مدى اربع سنوات، من دون أي قيد من موسكو المزودة بالأسلحة، بل إن مُدناً دمرت بشكل شبه كامل، فكيف سيكون الأمر عليه مع التدخل الروسي المباشر الذي سيكون أصحابه معنيين باستعراض قوة الدولة العظمى، واستخدام أسلحة متطورة، وبالحفاظ على ما تبقى من الدولة السورية، ولو كانت طريقة ذلك تؤدي إلى القضاء على ما تبقى من السوريين، أو تشريدهم في أنحاء المعمورة؟
جرى الحديث، في العامين الماضيين، بكثافة عن منطقة آمنة ومناطق حظر جوي، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ورفضت الإدارة الديمقراطية في واشنطن، على الدوام، تقييد حركة الطيران السوري الذي واظب على إلقاء ما لا حصر له من براميل متفجرة على المدنيين، وعلى أحياء سكنية، إضافة إلى مقاتلي المعارضة. المسؤول العسكري الأميركي السابق، ديفيد بترايوس، شدد، في شهادة له أمام الكونغرس الثلاثاء الماضي، على أنه كان في وسع واشنطن تقييد حركة الطيران السوري. الوجود الروسي العسكري في سورية سيطوي هذه الصفحة، مخافة وقوع احتكاك "عسكري" بين القوتين العظميين، ولأن هناك دولة روسية الآن على أراضي الدولة السورية، وفي أجوائها ومياهها الإقليمية!
هل معنى ما تقدم أن أمراً واقعاً جديداً تكرّس على الأرض؟ الجواب، وإلى إشعار آخر: نعم. إلا إذا أعاد مخططون عسكريون واستراتيجيون في واشنطن حساباتهم، حول الانكفاء الأميركي الذي سُرعان ما يُترجم إلى اندفاع روسي وإيراني في الشرق الأوسط. هذا مع الأخذ في الاعتبار ان المعارضة المسلحة لن توقف معاركها، وقد تراهن على خسائر روسية في معارك برية محتملة، بما يناظر الخسائر الإيرانية وخسائر حزب الله. من دون أن يقلل ذلك من مخاوف لجوء القوات الروسية إلى سياسة الأرض المحروقة، وهي سياسة ليست جديدة، فقد سبق أن استخدمها النظام على نطاق واسع، لكن الخشية هي من استخدام أسلحة روسية أشد فتكاً وتدميراً، من أجل إبعاد شبح الهزيمة السوفييتية في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، وبحيث يدفع السوريون ثمناً فادحاً (فوق ما دفعوه من أثمان) لتلك الهزيمة، بعد نحو ثلاثة عقود على وقوعها.
أما الحلول السياسية، فلن تتخلى عنها موسكو، والدليل تحرك أسطولها الجوي والبحري! ومن المنتظر، في هذا السياق، إعادة إنتاج مبادرات سابقة إيرانية وروسية، تطمس تطلعات السوريين وحقوقهم الأساسية والمرجعية الدولية للحلول، وتكافئ من فتك بهم، وهو ما قد يعبّر عنه خطاب منتظر للرئيس فلاديمير بوتين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، يدلل فيه على أن التدخل العسكري الروسي في سورية لدفع الحل السياسي إلى أمام.

محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.