تدبير الشأن الديني
أثار انتباهي في زيارة العاهل المغربي، الملك محمد السادس، تونس، وفي إطار برنامج عمل تم ترتيبه بين الدولتين المغربية والتونسية، بند يقضي بأن يقدم المغرب لتونس خبرته في مجال تدبير الشأن الديني. وقد تم توضيح المعالم الكبرى لهذه الخبرة في مجموعة قضايا، من قبيل تنظيم المساجد وضبطها، وتكوين خطباء الجمعة، وكذا تكوين (تأهيل) المرشدات والمرشدين في الشأن الديني.
يأتي الاتفاق المذكور في أثناء مسؤولية حكومة التكنوقراط التي يقودها مهدي جمعة في تونس، بعد التوافق بين أطراف الحكومة والمعارضة، وتَرَتَّب عنه تنازل حكومة الترويكا التي كانت تعمل تحت قيادة حزب النهضة، وقد عُهِدَ إلى تلك الحكومة الإشراف على ما تبقى من بنودٍ إجرائية (الانتخابات الرئاسية وانتخابات المجلس التأسيسي) في موضوع الطور الانتقالي الذي تمر به تونس، بعد نجاح الثورة وتجاوز مآزق الاستقطابات الحادة التي تلتها.
ويثير موضوع الاتفاق قضايا عديدة، خصوصاً أن موضوع تدبير الشأن الديني لم يصبح موضوع تَدبُّر مُعْلَنٍ، في أغلب البلدان العربية، إلا بعد بروز تيارات إسلامية خيرية ودعوية، عملت على منافسة بعض مؤسسات الدولة في مقاربة الشأن الديني.
ونحن نتابع خبر الاتفاق بين الدولتين، استحضرنا أمرين، أولهما الرصيد البورقيبي في النظر إلى الإسلام، وفي مجال التشريع للأحوال الشخصية خصوصاً، إذ شكلت مدونة الأسرة في تونس، في زمن الإعلان عنها، موقعاً طلائعياً في المجتمعات العربية، منح المرأة في تونس مكانة خاصة داخل المجتمع التونسي. كما استحضرنا المكاسب السياسية والاجتماعية التي عرفها المجتمع التونسي بعد ذلك، والرجّة التي حصلت بعد وصول حزب النهضة إلى الحكم، إذ شعرت النخب بالخوف من احتمال التراجع عن المكاسب التي منحت المجتمع التونسي سمات خاصة في الثقافة والمجتمع.
يدعونا الاتفاق المذكور إلى الإشارة إلى أن المغرب يستكمل، هذه السنة، عقداً في باب تدبير الشأن الديني. فقد انتبه النظام المغربي، في مطلع الألفية الثالثة، إلى دور أصبحت تمارسه الحركات الإسلامية في المجتمع المغربي، وحرص على تنظيم المؤسسات الموكول إليها تنظيم الخطاب الديني وتصريفه.
يندرج خيار المغرب في هذا المجال ضمن مساعيه الهادفة إلى محاصرة انتشار الحركات الدعوية والجهادية والإحسانية داخل المجتمع المغربي، ومعلوم أن الحركات المشار إليها تُدْرِج أعمالها، في العادة، ضمن دائرة الإصلاح الديني، ومقاومة الظواهر اللادينية داخل المجتمع، وهي تستعمل الفضاء الافتراضي لتبيح تعميم فتاوى، ما أنزل الله بها من سلطان.
لا بد من التوضيح، هنا، أن دستور المملكة يتبنى الإسلام ديناً رسمياً للدولة، مثلما الحال في تونس. كما أن المؤسسة الملكية تعتبر شرعيتها دينية، إذ يعتبر الملك ممثلاً للسلطة الدينية، بحكم حمله لقب أمير المؤمنين. أما وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وهي الوزارة الوصية على تنظيم الحقل الديني، فإنها تشرف على تطبيق السياسة الرسمية للدولة، في موضوع الدين ودوره في المجتمع والتاريخ، إذ تستعمل المذهب المالكي، لمواجهة التيارات الدينية الوافدة، من قبيل السلفية الوهابية والتشيع، وكذا تيارات الإسلام السياسي والسلفيات التكفيرية والجهادية.
انتبه النظام المغربي إلى أشكال الحضور التي أصبحت تمارسها هذه الحركات، داخل المجتمع المغربي ومؤسساته، إضافة إلى آثارٍ ترتبت على عولمة الإرهاب، ما دفعه، سنة 2003، إلى إعداد هيكلة جديدة لوزارة الأوقاف، لتنخرط في عمليات تدبير مركزي وجهوي، لكل ما له علاقة بالشأن الديني.
ركبنا، في مجمل المعطيات السابقة، السياقات العامة التي واكبت موضوع تقديم الخبرة المغربية في موضوع تدبير الشأن الديني لتونس. ونؤكد، هنا، أن ما يسمح بتوحيد الرؤية بين البلدين، في هذا الموضوع، هو أن الدولة في كل من تونس والمغرب ترى أن الدين ومؤسساته داخل المجتمع تابع للدولة، فليست هناك سلطة دينية منفصلة عن سلطة النظام السياسي.
يُقرأ هذا المبدأ في إطار تبعية الدين للدولة، وهو يندرج ضمن نوعٍ من الاختيار السياسي الذي يمنح المجال السياسي سلطةً معينة، في تدبير كل ما هو ظاهري تعبدي، ويحتاج إلى مؤسساتٍ، ليكون تابعاً للنظام السياسي السائد. ولا شك أن هذا الموقف مرتبط بمبادئ وتصورات فلسفية، محددة لعلاقة الدولة بالدين، وهي مبادئ مؤسسة بعناية في الأصول الفلسفية لمفهوم السلطة السياسية في المشروع الليبرالي.
قُرِئت خيارات النظام السياسي المغربي، في موضوع تدبير الشأن الديني، في إطار محاولةٍ لتحديث المجتمع المغربي، كما قرئت، من جهة أخرى، باعتبارها خطوة محافظة، إذ يستمر العمل بمبدأ توظيف الدين ومؤسساته داخل المجتمع. نتأكد من هذا، عندما نتابع نتائج التدبير في سنوات العقد الذي ينصرم.
فماذا تريد تونس، بالذات، من التجربة المغربية؟ إذا كان الأمر يتعلق بمحاولةٍ، للتعرف على الإطار الشكلي والمؤسسي للتدبير الديني داخل المجتمع، فقد تكون في الأمر فوائد إجرائية وآنية وغير ذلك، نرى أن تدبير الشأن الديني في كل مجتمع، كما نتبين ذلك في تجارب تاريخية كثيرة، يقتضي ليكون ناجعاً أن يستثمر مكاسب حصلت، وينتبه في الآن نفسه، إلى تراجعات محتملة، ويكون على بينةٍ في مستوى ثالث، بأن طريق التحديث ليس خطياً، وأنه مرهونٌ، طال الزمن أم قصر، باستكمال مشروع الإصلاح الديني.