تداعيات إيجابية لتصدّع العلاقات العابرة للأطلسي

25 يونيو 2017
ترامب وقادة الأطلسي خلال قمة بروكسل(بينيت توباجين/فرانس برس)
+ الخط -
يكاد يجمع المحللون على أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليس كسابقيه من الرؤساء. فهو لم يأت من الخلفية ذاتها، ولم يسلك الطريق التقليدي للوصول إلى أعلى منصب في الدولة، حيث إن أغلب الرؤساء تدرّج في مناصب رسمية لسنوات طويلة قبل وصوله للرئاسة. كما أن حملته الانتخابية لم تكن تقليدية، بل كانت أشبه بمهرجان عنصري لاستقطاب الأميركيين البيض وخصوصا الطبقة العاملة البيضاء التي أرهقتها السياسات النيوليبرالية والعولمة. ركزّت هذه الحملة على التغنّي بماض مزدهر (لهذه الجماعة فقط) وبالغت في التهّجم على الأقليات والجماعات الاجتماعية المهمشة كالمسلمين والمهاجرين من أصول لاتينية والأميركيين من أصول إفريقية. بل إن الخطاب الهجومي طاول وسائل الإعلام والمؤسسة الليبرالية المهيمنة والجامعات التي اتُهمت بأنها السبب في إضعاف أميركا، وكل من لم يتوافق مع استنهاض الماضي المزدهر للطبقة البيضاء وخصوصا الرجال.

أدى انتخاب ترامب إلى احتدام الأزمة في المنظومة الليبرالية العالمية المهيمنة. ترتكز هذه المنظومة على عدة مبادئ سياسية واجتماعية ليبرالية. فهي تجمع بين الديمقراطية الليبرالية والحقوق المدنية والسياسية (لكنها تستثني إلى حد كبير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية) ومبدأ سيادة القانون، خاصة في ما يتعلق بالمعاملات الاقتصادية وحماية الاستثمارات، وبين التجارة الحرة واقتصاديات السوق وإزالة الحواجز التجارية التي تزيد من تكلفة التجارة مثل الضرائب والجمارك. هيمنت هذه المنظومة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، إذ رأى العديد من المنظرين الليبراليين أن هذه الحرب انتهت بفوز الليبرالية، وما انفكت المؤسسات الدولية تسعى نحو نشر الليبرالية السياسية والاقتصادية والترويج لها في كافة أرجاء العالم.

ترتبط هذه المنظومة الليبرالية ارتباطا قويا مع المنظومة الأمنية الأميركية-الأوروبية التي يُعد حلف شمال الأطلسي (حلف الناتو) أحد تجلياتها. وتشتمل هذه المنظومة على تنسيق قريب بين متخذي القرار في الدول المعنية في أمور السياسة الخارجية والدفاع، وتبادل موسع للمعلومات الاستخباراتية. تُعد هذه المنظومات السياسية والاقتصادية والأمنية أركان ما يسمى بالعلاقات العابرة للأطلسي والتي تعتمد على حلف متين بين طرفي شمال الأطلسي تتخذ فيه الولايات المتحدة الموقع القيادي. طبعا لا تعني هذه العلاقة أن جميع هذه الدول تتوافق في جميع المسائل والقضايا، لكنها تعني التوافق على القضايا والمصالح الاستراتيجية العليا مع وجود هامش للتمايز بين المواقف، والتركيز على المفاوضات والنقاش للتقريب من وجهات النظر.

كانت العلاقات العابرة للأطلسي بجميع مستوياتها (الأمني والسياسي والاقتصادي) مكان إجماع جميع الدول المشاركة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن انتخاب ترامب كان بمثابة هزة لهذه العلاقة. إذ إن الحملة الانتخابية والوعود التي قدمها في هذه الحملة - كبناء سور على الحدود مع المكسيك، والانسحاب من معاهدات التجارة الحرة، ونيته رفع الجمارك وإعطاء الأولوية للشركات الأميركية وللأيدي العاملة الأميركية، ومنع الهجرة من دول مسلمة- تتنافى مع مبادئ أساسية هي في صلب الشراكة العابرة للأطلسي. وقد كانت بوادر هذه الأزمة واضحة منذ البداية. فقد عبرت العديد من الدول عن امتعاضها من قرار ترامب بمنع دخول الزائرين من دول مسلمة.

وأبدى الكثيرون استغرابهم من انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ (وهي اتفاقية التجارة الأكبر في التاريخ والتي تجمع بين 12 دولة على طرفي المحيط الهادئ) بعد أقل من سنة على توقيعها. وقد وصلت هذه الأزمة ذروتها عند إعلان ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ الرامية لخفض انبعاثات الكربون بذريعة حماية الوظائف وصناعة الفحم الأميركية. فقد لاقت هذه الخطوة استنكارا واسعا من أغلب دول العالم وبالأخص حلفاء أميركا الأوروبيين. يمكن اعتبار هذه الخطوة بداية لمرحلة جديدة عنوانها تصدع العلاقات العابرة للأطلسي، أو كما عبرت عنها المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل: انتهاء مرحلة الاعتماد على الآخرين (أي الولايات المتحدة) بشكل مطلق.

لا شك أننا بصدد مرحلة جديدة تشهد إعادة صياغة العلاقات بين أميركا وأوروبا وفقا لرؤية هذه الدول لمصالحها والمبادئ والقيّم التي تدعي تبنيها. وقد يكون من الصعب التكهن بمقدار التغيير، إلا أنه، ووفقا لما قد تبدّى حتى الآن، فإن نقاط الاختلاف والتمايز سوف تدور حول المبادئ الليبرالية. حيث سوف تتبنى أوروبا المبادئ الليبرالية الاقتصادية والسياسية وبالأخص فيما يتعلق بالتجارة الدولية والتعاون الدولي والقانون الدولي، بينما تتبنى الادارة الأميركية مبادئ هي النقيض من ذلك: غير ليبرالية، رجعية، منغلقة على نفسها، غير آبهة بالقضايا الدولية الملحّة كالتغيير المناخي والفقر والتنمية. طبعا لن يتم ذلك بسرعة أو بسهولة. إذ أن الليبرالية الاقتصادية والسياسية هي أفكار متجذرة في قلب النخب والمؤسسات الأميركية والتي تقاوم التوجهات غير الليبرالية في السياسات الأميركية. إلا أن الإدارة الأميركية الحالية مصممة على المضي في هذا الاتجاه وهي لاتزال تتمتع بدعم قطاعات واسعة من المجتمع الأميركي.

هذا الفرز بين ترامب من جهة، والعالم (بما فيها النخب الأميركية) من جهة أخرى، وتصدع العلاقات العابرة للأطلسي، قد تكون، إذا ما تم الالتفات لها واستثمارها، نقطة قوة في صالح الفلسطينيين على المدى البعيد. فاحتضان ترامب لإسرائيل ووقوفه بشكل واضح ومطلق إلى جانبها، وعلاقته الحميمة مع نتنياهو، وعلاقته القوية مع رجل الاعمال شلدون أديلسون (رجل الأعمال الأميركي والممول الأول لنتنياهو وراعي العديد من المؤسسات والمشاريع الاستيطانية في فلسطين) جميعها تدل على أن إسرائيل، أو على الأقل إسرائيل الرسمية، هي من أقرب الدول إلى الإدارة الأميركية الحالية، وهي شريكتها في هذه النزعة غير الليبرالية. اذا، في الفرز بين ترامب وباقي الدول الغربية، سوف تبدو إسرائيل أقرب إلى ترامب منها إلى الدول في المعسكر الليبرالي.

الصورة ذاتها سوف ترتسم في مخيلة العديد من النخب والأوساط الليبرالية الأميركية. فكلما توثقّت العلاقة بين ترامب واسرائيل، سوف يصعب تقديم اسرائيل كدولة ذات قيّم ليبرالية كما تم تسويقها على مدى السنوات السبعين الماضية. هذه الصورة، التي تتخذ فيها إسرائيل موقع اليمين المتطرف، واذا ما حسُن استعمالها، سوف تعزز الميول والتوجهات للتضامن مع الفلسطينيين، وهي توجهات آخذة بالنمو التدريجي في أوساط الأمركيين وخصوصا بين الطبقات الشابة كما تفيد الإحصاءات والمسوح التي تربط بين مستوى التعليم والأفكار الليبرالية وبين تبني الأفكار السلبية تجاه إسرائيل. فالتشديد على عمق العلاقة بين ترامب واسرائيل سيؤدي إلى تآكل صورة إسرائيل في أعين الأوساط الليبرالية.

هذا الربط بين إسرائيل وترامب والأفكار غير الليبرالية قد يؤدي إلى بعض التغييرات على المستوى سياسات الدول الخارجية والرأي العام في بعض الدول. فتصدّع العلاقات العابرة للأطلسي (وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي هي بمثابة الصوت الأميريكي فيه) قد يعطي مساحة أكبر لدول أوروبية لاتخاذ مواقف ضد الاحتلال الإسرائيلي تتخطى التصريحات المنددة. هذه المساحة يمكن أن تترجم إلى دفعة في اتجاه منع استيراد منتجات المستوطنات الإسرائيلية مثلا، أو منع الشركات الأوروبية من الاستثمار في المستوطنات والتعاطي معها. كما انه من الممكن أن تتخذ هذه الدول مواقف أكثر حزما ضد إسرائيل في المحافل الدولية كالأمم المتحدة. على مستوى الرأي العام، فإن عرض إسرائيل كحليف ترامب الأقرب سوف يضعضع صورة إسرائيل بين أوساط مهمة صانعة للرأي ما قد يؤدي إلى تقريب الرأي العام إلى المواقف الفلسطينية، والذي إن تم، واذا ما حظي بمتابعة رسمية أو شبه رسمية، قد يحُدث تغييرات في سياسات بعض الدول تجاه القضية الفلسطينية.

ينبغي التذكير هنا بأنه من السذاجة بمكان التوقع أن هذا التصدّع في العلاقات العابرة للأطلسي وتغنّي بعض الدول بقيم ليبرالية سوف يعني بالضرورة تغيير سياساتها تجاه القضية الفلسطينية بشكل تلقائي. فالعلاقات الدولية في نهاية الأمر تحكمها مصالح الدول والدول ليست بالمؤسسات الخيرية. والليبرالية نفسها ليست بمنظومة سياسية واقتصادية بريئة. فهي بالأساس مبادئ وأفكار تعكس مصالح التي تخدم شرائح معينة وتتغيير هذه الأفكار بتغيير المصالح والظروف (هنا يجب التنويه أن أغلب أصدقاء إسرائيل التاريخيين كانوا ليبراليين، وأن الدعم لإسرائيل في الأوساط الليبرالية يعتبر من الأفكار المسلم بها). يجب أن لا ننسى أيضا أن العديد من الأفكار والنظريات الليبرالية كانت في صلب الفكر الذي برر الاستعمار وروج له. لكن هذا التغيير أو التصدع في العلاقات قد يكون فسحة يمكن استغلالها. استعمال هذه الفسحة منوط بمراجعة وتقييم أداء القيادة الفلسطينية في العقدين الماضيين، وبتطوير سياسات داخلية وخارجية فلسطينية تحمل رؤيا للمرحلة المقبلة.

لكن بدلا من مراقبة هذه التغييرات والعمل على استغلالها، تحتفي القيادة الرسمية الفلسطينية بترامب وتتوهم بأنه، وبسبب جهله وبسبب عدم درايته الكافية بتفاصيل النزاع العربي الإسرائيلي، سوف يكون موقفه معتدلا ومنفتحا للموقف الفلسطيني. فتتبنى تارة سياسة دغدغة غرور ترامب عن طريق إغراقه بكلمات الإطراء، وتارة تعلن نيتها العودة إلى المفاوضات بدون أي شروط- أي القبول باستمرار الاستيطان بعد الإصرار سابقا على وقفه كشرط للعودة لطاولة المفاوضات. هذا التخبط لا يرتقي لدرجة سياسة خارجية. فمن يتوهم أن ترامب سوف يكون وسيطا أكثر اعتدالا من أسلافه، وأنه سوف يضحي بقاعدته الانتخابية اليمينية وداعميه الماليين اليمينيين لصالح سياسة أميركية أكثر اتزانا، أو أن نتنياهو سوف يضطر لتقديم تنازلات جوهرية، هو أقرب لغريق يتعلق بقشة. من هنا، فإن مفتاح أي تقدم على هذا المستوى مشروط بإعادة تقييم المواقف، والاعتراف بالأخطاء المتراكمة وضعف التوجهات الحالية، وإدراك عدم وجود أي أفق للتقدم إن لم تتغيير العقلية المسيطرة في المشهد الفلسطيني.

(محاضر في القانون الدولي في جامعة سيتي لندن)



المساهمون