تخلي "الحركة الشعبية" عن العمل المسلح: أحلام العودة للداخل

23 مايو 2018
ترشح عرمان للرئاسة عام 2010 قبل سحبه(أشرف الشاذلي/فرانس برس)
+ الخط -
فاجأ نائب رئيس "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، ياسر سعيد عرمان، الأوساط السياسية في مقال له نُشر على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، أعلن فيه عزم الحركة التي ظلت تقاتل الخرطوم منذ سبتمبر/أيلول 2011، التخلّي عن العمل المسلح والانتقال للنشاط السياسي، وذلك لتحقيق مساومة تاريخية لبناء مشروع وطني مغاير يجد الإجماع الكافي. وبينما اختلفت القراءات للدوافع التي تقف وراء كلام عرمان، فإن السلطة لم تتأخر للترحيب به، مع مطالبتها بأفعال تترجم هذه الأقوال.

ويُعدّ عرمان واحداً من أهم أعمدة "الحركة الشعبية" التي انتمى إليها في العام 1986، وشارك في الكثير من عملياتها العسكرية، حينما كانت حركة واحدة قبل انفصال الجنوب عام 2011. كما أن عرمان يُعتبر من أهم المنظّرين للحركة ويعتمد على أفكار الرئيس السابق للحركة جون قرنق، وكثيراً ما قاد وفد الحركة للتفاوض مع الحكومة في أديس أبابا تحت رعاية الاتحاد الأفريقي. كما أنه اختير في 2010 مرشحاً لرئاسة الجمهورية من قبل "الحركة الشعبية"، وبرز كمنافس جدي للرئيس السوداني عمر البشير، لكن الحركة، ولحسابات تكتيكية سحبته في اللحظات الأخيرة، وعلى الرغم من ذلك حصل على آلاف الأصوات.

غير أن الضربة الموجعة التي تعرض لها ياسر عرمان، تمثّلت في انشقاق الحركة منذ مارس/آذار 2017، إلى فصيلين، الأول وهو الأقوى عسكرياً يقوده عبدالعزيز الحلو ويتركز أكثر في منطقة جنوب كردفان، والثاني يقوده مالك عقار ويتمركز في منطقة النيل الأزرق، فوجد عرمان نفسه مجبراً على الاصطفاف إلى جانب عقار لأن الطرف الآخر حمّلهما شخصياً ما اعتبره اختلالاً في بناء الحركة المسلحة واضطراباً في مواقفها التفاوضية مع الحكومة السودانية، إضافة لاتهامهما بالعمل على توقيع اتفاق سلام مع الحكومة بتنازلات كبيرة. ومع هذه التطورات خسرت "الحركة الشعبية" زمام المبادرة في الميدان العسكري، وفقدت الكثير من المناطق التي كانت تسيطر عليها، كما فقدت دعماً دولياً وإقليمياً ضاغطاً على الجميع من أجل التوصل لسلام.

وقال عرمان في مقاله: "يبقى الكفاح المسلح مهما طال وقته مرحلة مؤقتة وآلية ذات هدف ووقت معلوم تابعة للمنظمة السياسية المعنية، فحتى الحركات التي وصلت إلى السلطة عن طريقه تحوّلت أجنحتها العسكرية إلى جيوش نظامية، وإن احتفظت بطبيعتها الثورية".
وشدد عرمان على أن "هدف الكفاح المسلح هو الوصول لمساومة تاريخية لبناء مشروع وطني مغاير يجد الإجماع الكافي"، مستدركاً بالقول "متى ما توفرت وسائل أقل كلفة لتحقيق الأهداف نفسها يجب أن نضعها في الاعتبار". واستشهد عرمان بتجربة حركة "الفارك" في كولومبيا وإبرامها اتفاق سلام أخيراً أنهى حرباً استمرت لأكثر من خمسين عاماً، "بينما أوصل الكفاح المسلح المجموعات المسلحة لنتائج مختلفة وصل بعضها عن طريقه للسلطة كما هو الحال في إثيوبيا وإريتريا، ووصل بعضها لاتفاقيات سلام كما هو حال المؤتمر الوطني الأفريقي والحركة الشعبية في 2005، ومنها ما انتهى إلى فشل تام مثل حالة "نمور التأميل" في سريلانكا"، بحسب قوله.

وأشار نائب رئيس "الحركة الشعبية" إلى أن "القوة الحقيقية للحركة تكمن في العمل السياسي ومخزون النضال الجماهيري السلمي، وبما أن توازن القوى الحالي لا يمكّننا من تغيير المركز بالكفاح المسلح وحسم المعركة عسكرياً مثل ما حدث في إثيوبيا وإريتريا، فإن ذلك يستدعي تفعيل النضال الجماهيري السلمي للوصول إلى التغيير الذي ننشده". وأكد أن "ما نسعى إليه هو استخدام رصيدنا من الوسائل الأخرى حتى لا ينتهي الكفاح المسلح نفسه إلى شكل من أشكال الاستسلام والمساومة والاندماج في النظام القديم بدلاً من إحداث التغيير"، مشيراً إلى المتغيرات الإقليمية والعالمية باعتبارها ذات أثر بالغ على الكفاح المسلح، قائلاً "إن الكفاح المسلح على مستوى العالم يمر بمرحلة جديدة تستدعي إعمال الفكر".
وأراد عرمان بصورة واضحة من مقاله هذا إرسال رسالة للحكومة السودانية والوساطة الأفريقية والمجتمع الدولي، يعلن فيها باسم "الحركة الشعبية" الرغبة في توقيع اتفاق سلام مع الحكومة، خصوصاً أن الفصيل الذي ينتمي إليه عرمان أُبعد من آخر جولة مفاوضات.


وبدا أن حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم استلم الرسالة، وسرعان ما تجاوب معها، إذ رحّب على لسان أمينه السياسي عمر باسان بالتوجّه الجديد الذي تمضي فيه "الحركة الشعبية"، معتبراً في تصريح صحافي أن "التحدي أمام عرمان أن يصدق القول بالعمل وأن يحدد ماذا يريد من دون أي اشتراطات أو تأخير في العودة".
وتعهّد باسان بالنظر إلى كافة الضمانات التي من شأنها أن تحل مخاوف عرمان، وأضاف: "إن كانت هناك أي مخاوف من اتخاذ أي إجراءات ضده، سيُنظر لها في حينها". واستبعد أن يكون حديث عرمان عودة لتيار معارض قوي يواجه "المؤتمر الوطني"، قائلاً: "عرمان سيكون خصماً على قبيلة اليسار التي ما تزال أصواتها تطالب بإسقاط النظام، ولا نعتقد أن وجود حزب سياسي سيكون خصماً على شعبية الوطني ووجوده في الساحة السياسية، والفيصل بيننا هو الانتخابات". وأضاف: "مع ذلك، فإن وجود الحركة في العمل السياسي، يُمثّل إضافة لأنها رفضت العنف وتخلت عن السلاح"، مستدركاً أن "أقوال عرمان بحاجة إلى أفعال، والتحدي الذي أمامه أن كثيراً من القوى المسلحة التي معه ترفض رؤيته، ولا تزال ترفع شعار إسقاط النظام".

على صعيد الوفد الحكومي الذي يفاوض المتمردين في أديس أبابا، أعلن المتحدث باسمه حسين كرشوم، ترحيب الوفد برغبة "الحركة الشعبية" في الانتقال السلس من العمل المسلح إلى النشاط السياسي السلمي. وأشار إلى أنها ليست المرة الأولى التي تطرح فيها الحركة مثل هذه الخيارات، فقد سبق أن أعلن رئيس الحركة مالك عقار عن الرغبة في خوض الانتخابات في 2020، بل دعا بقية القوى السياسية المتحالف معها للقيام بالخطوة نفسها. وأشار كرشوم إلى أن عرمان نفسه أبدى استعداده لتسجيل حزب سياسي، معتبراً أن ما جاء في مقاله الأخير يُعبّر عن تيار عريض في "الحركة الشعبية" اختار هذا الخيار منذ فترة لأنه اكتشف أن الحرب لا رابح فيها وأن الخاسر الوحيد هو الشعب السوداني.

وأوضح كرشوم لـ"العربي الجديد" أن الحكومة ظلت تطالب منذ دعوتها للحوار الوطني، بنبذ العنف واللجوء لوسائل التعبير السلمي في الخطاب السياسي، مؤكدة أن السودان يسع الجميع ويرحب بكل من ينبذ الحرب ويختار العمل السياسي، مضيفاً أن أمام "الحركة الشعبية" الآن التوقيع مباشرة على الوثيقة الوطنية تمهيداً للحاق بمسار الحوار الوطني.
وأكد كرشوم استعداد الوفد التفاوضي الحكومي، للجلوس مع مجموعة عرمان والترتيب معها لعودتها للداخل لتبدأ نضالها السلمي كما تريد، مشيراً إلى أن "جلوسنا معهم سيأتي على مرجعية خارطة الطريق الموقّعة بين الحكومة والحركة الشعبية تحت رعاية الاتحاد الأفريقي والتي تنظر التنفيذ منذ شهور عديدة".

من جهته، دعا القيادي في حركة "الإصلاح الآن"، أسامة توفيق، الحكومة إلى استثمار رغبة "الحركة الشعبية" في اللجوء للخيارات السلمية وألا تضيّعها كما أضاعت مثلها من قبل، مشيراً في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن توجّهات "الحركة الشعبية" جاءت استجابة لنداء العقل في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة التي باتت تدعم بشكل قاطع التوجّهات السلمية والحوار. وأبدى توفيق تخوّفه من أن ترى الحكومة في عودة "الحركة الشعبية" تقوية للمعارضة الداخلية وبالتالي تُفشل تلك الرغبة بكل السبل.

أما الصحافي السوداني محمد عبدالعزيز، فرأى أن عرمان بمقاله هذا يدشّن حملة انتخابية مبكرة له لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة وإعادة الفرصة الضائعة التي فرّط فيها في العام 2010. وأضاف عبدالعزيز في حديث مع "العربي الجديد"، أن دوافع "الحركة الشعبية" في الوقت الراهن لترك الكفاح المسلح تتلخّص في الضغوط الدولية الكثيفة من الدول والمنظمات على أطراف الحرب للتوصل لاتفاق سلام بالحسنى أو الإكراه، فضلاً عن ضعف الموقف على أرض المعركة واضمحلال الدعم السياسي للحركة، مشيراً إلى أن القوة السياسية والقدرة على الاختراق والمناورة والتكتيك هي أبرز ما يميز عرمان، ما يجعله بالفعل منافساً قوياً على رئاسة الجمهورية في 2020.

دلالات
المساهمون