تحولات العسكرة العنفية وتدمير العمران

09 نوفمبر 2014

آثار دمار حلب نتيجة قصفها بطائرات النظام وبراميله المتفجرة(26سبتمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

فجأة، ومن دون مقدمات، بدأت تحولات عسكرة عنفية، تهيمن في فضاءات مجتمعات بلادنا، حين انطلقت، ومن داخلها وعبر الحدود، موجات من التسلح والتسليح، ربما تعويضاً عن كبت مكتوم، امتد ويمتد عشرات الأعوام، من حكم أنظمة استبداد طغيانية، وإن تكن تشرف على السقوط والغرق في بحار من الحروب، فهي أسلمت وتسلم قياد السفينة الغارقة، لاستبداد طغياني أعتى، يستمد لا مشروعيته من تدين أعمى، لا علاقة ولا صلة للدين به، تقوده قوى سياسوية ماضوية، خلطت الدين بالسياسة والسياسة بالدين، فما أنتجت سوى هذا الشكل الهجين من الممارسات والسلوكيات المضادة للإنسان المواطن، ولحقوقه في مواطنة صحيحة، تحترم حقوقه، قبل واجباته، لكنها، وهي المنذورة في نزوعها السلطوي لغير هذا السلوك، فهي لم ولن تقود مجتمعاتها، وهي البادئة، سوى إلى العنف والعسكرة، وقيام النزاعات الأهلية، مقدمة للحروب الأهلية الطويلة والمتواصلة، على قاعدة وخلفية الانقسامات الطائفية أو المذهبية التي قد تأخذ شكلاً سياسيّاً في البداية، لتتحول، مع الوقت، إلى نوع من المترسة خلف أطروحات تفتيتية وتجزيئية أعلى؛ ذات طابع طائفي ومذهبي أضيق فيما بعد.

هكذا بدأ احتكار العنف يتوزع، ويمتد ليشمل قوى خارج الدولة، قوى أهلية، حازت وتحوز العنف بفعل منافستها الدولة على أدوارها المفترضة، فلم تعد الدولة هي التي تحتكر العنف والسلاح والعسكرة، بل باتت قوى أهلية طائفية ومذهبية، تنافس الدولة على هذا الاحتكار، لينتقل الصراع السياسي بين القوى المحلية إلى صراع إقليمي، أو بين دول إقليمية عبر تشغيل أدوات محلية، أدوارها تتخطى الحدود، كل هذا لخدمة مشروع قومي إمبراطوري، يهدف إلى إعادة منطق النفوذ والهيمنة في محيط جيوسياسي واستراتيجي، لا تتفق على إدارة شؤونه القوى المهيمنة، أو القوى المتصارعة في المنطقة، وعلى الخصوص، في منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية.

وإذا كان النظام الرسمي العربي قد احتكر العنف والسلاح ردحاً طويلاً من الزمن، إلى جانب وبالتعايش مع قوى قبلية وعشائرية، يعتبر السلاح من تقاليدها وإرثها وتراثها، ووفق ضوابط ومعايير معينة، فإن احتكار العنف وإفشاء انتشار السلاح؛ خصوصاً لدى قوى أهلية، حازته وتحوزه بالإكراه والغلبة، ولأهداف تتخطى خدمة مشاريع محلية إلى خدمة مشاريع إقليمية، تؤسس لحروب أهلية طويلة، من سماتها الصراع على السلطة، والعمل على إسقاط الدولة، وبناء كانتونات محلية، ذات أكثريات مذهبية، وجعل بلاد بأكملها رهينة منطق في التمذهب والتطييف والتفتيت، وكأنه "الهدف الأسمى" لقوى ذات طابع مذهبي أكثر تعصباً، قبل أن يؤسس "الدواعشيون" منطقاً في التكفير الشامل يتخطى حدود الطائفة وحدود المذهب، إلى ما هو أشمل؛ وكأن مهمتهم الوظيفية "الخلاصية" تتخطى تدينهم وأمثالهم، إلى نوع من التدين الشمولي الذي تجاوز كل الحدود، حيث احتكار المهمة والوظيفة والدور نابعة من "تكليف إلهي" بزعمهم. 

ولكن، أين تقع إسرائيل وفق هذا المنطق؟ ولماذا لا يجري توجيه السلاح إلى نحرها، ككيان عنصري استيطاني فاشي، أقيم على أسس توراتية مزعومة، وهو الذي يحتل أرض فلسطين التاريخية وأراض عربية أخرى؟ أم أن الإرجاء هو السمة الطاغية على الخطاب الديني دائماً، والخطاب التديني خصوصاً، من قبيل ما نراه، اليوم، أمام أنظارنا من منطق "داعشي"، لا يروم غير التدمير والتفتيت والتخريب، وفي المآل الأخير، لن يكون بمقدورهم، ولا بمقدور منطق كهذا بناء دولة (أي دولة)، فما هكذا تُبنى الدول، ولا بهذا الذي يجري ارتكابه من كبائر، يمكن التأسيس، أو التمهيد لبناء دولة، فكيف هو الحال، وهم يزعمون أنهم يسعون إلى بناء "دولة إسلامية"، عمادها "خلافة" و"خليفة"، لا إجماع عليهما بالمطلق. فإلى ماذا يمكن أن تفضي شريعة السلاح والعنف والإرهاب الأعمى، سوى إلى الخراب والفوضى الشاملة وتدمير العمران؟

47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.