19 أكتوبر 2019
تحولات الإستراتيجية التركية
راهنت تركيا، مثل الدول الغربية ودول عربية، منذ اندلاع الأزمة السورية على سقوط النظام بسرعة، لكن العكس هو ما حدث. ما أفسد حساباتها، قبل أن يأتي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ويربك الجميع. ومع مرور الوقت، أصبح الدور التركي محل جدل، فبعضهم يعتبره أساسياً لإيجاد تسوية للأزمة السورية، فيما يراها آخرون عاملاً مضاعفاً للأزمة، كونه يفتقر إلى الوضوح، لاسيما فيما يتعلق بمحاربة "داعش" وشبكاته التهريبية الاقتصادية والجهادية.
وقوف تركيا، منذ البداية، في المعسكر المناوئ لنظام الأسد والتشدّد في معارضته قادها إلى الدخول في مواجهةٍ سياسيةٍ مع روسيا، ما تسبب في أزمة حادة بين البلدين، بلغت أوجها مع إسقاط سلاح الجو التركي مقاتلةً روسيةً، تقول تركيا إنها دخلت مجالها الجوي، فيما تقول روسيا إنها كانت تحلّق في المجال الجوي السوري. تسببت الحادثة في قطيعة بين البلدين، وفي التنديد والوعيد، ولاسيما من روسيا، والتراشق السياسي والإعلامي، خصوصاً أن الرئيس التركي تعود، خلال السنوات الأخيرة، على الإفراط في التصريحات والتعليقات اليومية.
لا يعود "استعداء" تركيا روسيا إلى الأزمة السورية فقط، التي يختلف حولها البلدان، بل أيضاً إلى إستراتيجية تركية، تقوم على توظيف هذا التوتر لحصد مزيد من الدعم الأميركي والأوروبي، بالنظر إلى العلاقة المتوترة بين روسيا والدول الغربية. لكن تركيا التي بالغت في توتير العلاقة مع روسيا لم تلق الدعم الذي كانت تنتظره من حلفائها الغربيين، لأنهم ينظرون بعين الريبة إلى دورها في الأزمة السورية، بسبب موقفها الغامض من "داعش"، ومن مسألة تنقل الجهاديين الأوروبيين كما قلنا، ومن اتخاذها هذه الأزمة مطيةً لتصفية حساباتها مع الأكراد. فلم تحقق تركيا ما تريد من التوتر مع روسيا، بل ظهرت، في عيون الدول الغربية، وكأنها دولة مغامرة تفتقر إلى ضبط النفس والتريث.
لكن، بعد أقل من سنة من التوتر في علاقتها مع روسيا، شرعت تركيا في تطبيعها، ساعية إلى إعادتها إلى مستواها السابق. وهي تفعل ذلك أيضاً مناكفةً ونكايةً في حلفائها الغربيين. ويتزامن هذا التطبيع مع تطبيع آخر، تدعمه، هذه المرة، القوى الغربية، وهو إعادة الدفء والتوافق في العلاقة التركية-الإسرائيلية. لكن، ما هي دواعي التطبيع التركي-الروسي؟
كما قلنا، يدل على خيبة تركيا التي لم تلق الدعم الذي كانت تنتظره من حلفائها الغربيين، لكن مرده بالأساس حاجة تركيا إلى دعم الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية لتحقيق مآربها، ذلك أن التكفل بالجبهة السورية وتداعياتها المباشرة على الأمن التركي يقتضي تهدئة الجبهات السياسية مع الفواعل الدولية والإقليمية. فضلاً عن ذلك، تتطور تركيا في بيئةٍ معقدةٍ جيوسياسياً، وبالتالي، لا يمكنها الاستغناء عن علاقاتٍ مع قوى ذات توجهاتٍ لا تتوافق وتوجهاتها. فحرصها على تطبيع علاقاتها مع روسيا لا تحكمه فقط اعتبارات الأزمة السورية، بل أيضاً العلاقة الروسية-الإيرانية.
ترى الحكومة التركية في تصلب عود "داعش" في المناطق المجاورة لحدودها مع سورية،
وضلوعها في هجمات على التراب التركي، من جهة، وفي نشاط حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري وإمكانية إنشاء إقليم كردستان السوري، من جهة ثانية، تهديداً مباشراً للأمن القومي التركي. وحتى تتحرّك عسكرياً في سورية، لمواجهة التهديدين، كان لزاماً عليها التفاوض والتنسيق مع روسيا، لتنفيذ مخططاتها العسكرية، ولتفادي أي اشتباك عن خطأ، كما وقع مع حادثة إسقاط المقاتلة الروسية. وتتقاطع المصالح التركية والروسية حول نقطة محدودة، لكنها في غاية الأهمية: كلاهما ضد "داعش"، وضد التنظيمات الكردية. لكن، ليس بالضرورة للأهداف نفسها. فتركيا تريد تأمين حدودها مع سورية، وربما حتى إقامة منطقة آمنة، بتزكيةٍ أميركية وروسية وأوروبية، (ستحد هذه المنطقة من التهريب وتنقل الجهاديين الأوروبيين) في العمق السوري، لإبعاد "داعش" عن أراضيها، وكذلك للتخلص من المليشيات الكردية السورية، وإبعادها هي الأخرى عن الحدود.
ولتحقيق ذلك، أطلق الجيش التركي، قبل يومين، عملية "درع الفرات" لتحرير مدينة جرابلس السورية (شمالي ريف حلب)، على مقربةٍ من الحدود التركية، من سيطرة تنظيم داعش، ولإخراج المليشيات التركية من المنطقة، والتي تشارك فيها قواتٌ جوية وبرية. ولكل من تركيا والنظام السوري وروسيا وإيران والقوى الغربية مصلحةٌ في نجاح هذه العملية. فإذا افترضنا أن داعش عدو مشترك، فإن الأحزاب الكردية تعتبر تهديداً بالنسبة للنظام السوري، ولإيران ولروسيا أيضاً، بحكم علاقتها التحالفية مع نظام الأسد. وكل هذه الأطراف، على الرغم من اختلاف مصالحها، متفقةٌ على ضرورة الحفاظ على الوحدة الترابية لسورية.
لكن المشهد ليس بهذه "البساطة"، فللقيام بهذه العملية العسكرية، تركيا بحاجة إلى "الضوء الأخضر" الروسي. لكن، بتعاونها مع الجيش السوري الحر، تتخذ موقفاً مناقضاً للمصالح الروسية، وبما أنها تستهدف "داعش" والمليشيات الكردية في الوقت نفسه، فإنها تضع عملياً الجيش السوري الحر في مواجهةٍ مع الحزب الديمقراطي الكردي (السوري). نلاحظ هنا كيف تتداخل التحالفات الظرفية، وتتناقض من حيث المصالح والمستويات. وعلى الصعيد المحلي، توظف هذه العملية أيضاً لإظهار تماسك الجيش التركي، كون البلاد خرجت للتو من محاولة انقلاب عسكري فاشلة، كما قد توظف أيضاً لإبعاد الجيش عن السياسة الداخلية، بتكليفه بمهمة خارج الحدود. وإلا فلماذا تركت تركيا الأوضاع الأمنية تتدهور على حدودها طوال هذه المدة؟
من جانب آخر، يمكن اعتبار قرار تركيا القيام بعملية عسكرية بهذا الحجم في العمق السوري دلالة على خيبة أخرى: خيبة من أداء الائتلاف الدولي ضد داعش، وعجز عملياته على الحد من أضرارها، فزيادة عن التداعيات السياسية والإنسانية (ملايين من اللاجئين السوريين) أصبح التراب التركي مسرحاً لتفجيراتٍ يتورّط فيها "داعش" وتنظيمات كردية، ما يجعل تركيا البلد الأكثر تضرّراً من الأزمة السورية، اقتصادياً وأمنياً. أما الأطراف الإقليمية والدولية، فلا تبدو ممتعضة من الدخول التركي للأراضي السورية، بل مرحبة به، على الرغم من بعض التحفظ الغربي بسبب مسألة الأكراد. ترحيب يعود أيضاً إلى نفور هذه القوى من أي تدخل بري واسع في المسرح السوري. وبالتالي، فهي تبارك مثل هذه العمليات العسكرية البرية، ولو كانت محدودة، خصوصاً أنها تتوافق مع توجه إستراتيجي عام يقول بضرورة تكفل القوى المحلية بحفظ الأمن الإقليمي وصيانته.
وقوف تركيا، منذ البداية، في المعسكر المناوئ لنظام الأسد والتشدّد في معارضته قادها إلى الدخول في مواجهةٍ سياسيةٍ مع روسيا، ما تسبب في أزمة حادة بين البلدين، بلغت أوجها مع إسقاط سلاح الجو التركي مقاتلةً روسيةً، تقول تركيا إنها دخلت مجالها الجوي، فيما تقول روسيا إنها كانت تحلّق في المجال الجوي السوري. تسببت الحادثة في قطيعة بين البلدين، وفي التنديد والوعيد، ولاسيما من روسيا، والتراشق السياسي والإعلامي، خصوصاً أن الرئيس التركي تعود، خلال السنوات الأخيرة، على الإفراط في التصريحات والتعليقات اليومية.
لا يعود "استعداء" تركيا روسيا إلى الأزمة السورية فقط، التي يختلف حولها البلدان، بل أيضاً إلى إستراتيجية تركية، تقوم على توظيف هذا التوتر لحصد مزيد من الدعم الأميركي والأوروبي، بالنظر إلى العلاقة المتوترة بين روسيا والدول الغربية. لكن تركيا التي بالغت في توتير العلاقة مع روسيا لم تلق الدعم الذي كانت تنتظره من حلفائها الغربيين، لأنهم ينظرون بعين الريبة إلى دورها في الأزمة السورية، بسبب موقفها الغامض من "داعش"، ومن مسألة تنقل الجهاديين الأوروبيين كما قلنا، ومن اتخاذها هذه الأزمة مطيةً لتصفية حساباتها مع الأكراد. فلم تحقق تركيا ما تريد من التوتر مع روسيا، بل ظهرت، في عيون الدول الغربية، وكأنها دولة مغامرة تفتقر إلى ضبط النفس والتريث.
لكن، بعد أقل من سنة من التوتر في علاقتها مع روسيا، شرعت تركيا في تطبيعها، ساعية إلى إعادتها إلى مستواها السابق. وهي تفعل ذلك أيضاً مناكفةً ونكايةً في حلفائها الغربيين. ويتزامن هذا التطبيع مع تطبيع آخر، تدعمه، هذه المرة، القوى الغربية، وهو إعادة الدفء والتوافق في العلاقة التركية-الإسرائيلية. لكن، ما هي دواعي التطبيع التركي-الروسي؟
كما قلنا، يدل على خيبة تركيا التي لم تلق الدعم الذي كانت تنتظره من حلفائها الغربيين، لكن مرده بالأساس حاجة تركيا إلى دعم الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية لتحقيق مآربها، ذلك أن التكفل بالجبهة السورية وتداعياتها المباشرة على الأمن التركي يقتضي تهدئة الجبهات السياسية مع الفواعل الدولية والإقليمية. فضلاً عن ذلك، تتطور تركيا في بيئةٍ معقدةٍ جيوسياسياً، وبالتالي، لا يمكنها الاستغناء عن علاقاتٍ مع قوى ذات توجهاتٍ لا تتوافق وتوجهاتها. فحرصها على تطبيع علاقاتها مع روسيا لا تحكمه فقط اعتبارات الأزمة السورية، بل أيضاً العلاقة الروسية-الإيرانية.
ترى الحكومة التركية في تصلب عود "داعش" في المناطق المجاورة لحدودها مع سورية،
ولتحقيق ذلك، أطلق الجيش التركي، قبل يومين، عملية "درع الفرات" لتحرير مدينة جرابلس السورية (شمالي ريف حلب)، على مقربةٍ من الحدود التركية، من سيطرة تنظيم داعش، ولإخراج المليشيات التركية من المنطقة، والتي تشارك فيها قواتٌ جوية وبرية. ولكل من تركيا والنظام السوري وروسيا وإيران والقوى الغربية مصلحةٌ في نجاح هذه العملية. فإذا افترضنا أن داعش عدو مشترك، فإن الأحزاب الكردية تعتبر تهديداً بالنسبة للنظام السوري، ولإيران ولروسيا أيضاً، بحكم علاقتها التحالفية مع نظام الأسد. وكل هذه الأطراف، على الرغم من اختلاف مصالحها، متفقةٌ على ضرورة الحفاظ على الوحدة الترابية لسورية.
لكن المشهد ليس بهذه "البساطة"، فللقيام بهذه العملية العسكرية، تركيا بحاجة إلى "الضوء الأخضر" الروسي. لكن، بتعاونها مع الجيش السوري الحر، تتخذ موقفاً مناقضاً للمصالح الروسية، وبما أنها تستهدف "داعش" والمليشيات الكردية في الوقت نفسه، فإنها تضع عملياً الجيش السوري الحر في مواجهةٍ مع الحزب الديمقراطي الكردي (السوري). نلاحظ هنا كيف تتداخل التحالفات الظرفية، وتتناقض من حيث المصالح والمستويات. وعلى الصعيد المحلي، توظف هذه العملية أيضاً لإظهار تماسك الجيش التركي، كون البلاد خرجت للتو من محاولة انقلاب عسكري فاشلة، كما قد توظف أيضاً لإبعاد الجيش عن السياسة الداخلية، بتكليفه بمهمة خارج الحدود. وإلا فلماذا تركت تركيا الأوضاع الأمنية تتدهور على حدودها طوال هذه المدة؟
من جانب آخر، يمكن اعتبار قرار تركيا القيام بعملية عسكرية بهذا الحجم في العمق السوري دلالة على خيبة أخرى: خيبة من أداء الائتلاف الدولي ضد داعش، وعجز عملياته على الحد من أضرارها، فزيادة عن التداعيات السياسية والإنسانية (ملايين من اللاجئين السوريين) أصبح التراب التركي مسرحاً لتفجيراتٍ يتورّط فيها "داعش" وتنظيمات كردية، ما يجعل تركيا البلد الأكثر تضرّراً من الأزمة السورية، اقتصادياً وأمنياً. أما الأطراف الإقليمية والدولية، فلا تبدو ممتعضة من الدخول التركي للأراضي السورية، بل مرحبة به، على الرغم من بعض التحفظ الغربي بسبب مسألة الأكراد. ترحيب يعود أيضاً إلى نفور هذه القوى من أي تدخل بري واسع في المسرح السوري. وبالتالي، فهي تبارك مثل هذه العمليات العسكرية البرية، ولو كانت محدودة، خصوصاً أنها تتوافق مع توجه إستراتيجي عام يقول بضرورة تكفل القوى المحلية بحفظ الأمن الإقليمي وصيانته.