تحرير فلسطين من سلطة الغيب

21 يونيو 2015
من مشاهد اللجوء الفلسطيني عام 1948
+ الخط -

يؤشر عام 1964 على نقطة تحوّل، في تاريخ القضية الفلسطينية، التي انحصر تمثيلها، وإلى تلك اللحظة، بعدد من العائلات ذات زعامة دينية أو اجتماعية في المدن الرئيسية، وبقي الأمر كذلك حتى عقدت المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس في 28 أيار/ مايو 1964 من أجل إعلان قيام منظمة التحرير، غير أن تحولات سريعة ومتوقعة دفعت إلى ظهور قيادة ريفية بديلة بعد أقل من ثلاث سنوات على إنشائها.

جاءت فكرة المنظمة تطويراً لتمثيل فلسطين في جامعة الدول العربية الذي تناوب عليه ورثة العائلات المذكورة وهم: المقدسيان موسى وعبد الكريم العلمي، والنابلسي/ الصيداوي أحمد حلمي عبد الباقي وابن عكا أحمد الشقيري، حيث عهد للأخير تأسيس مؤسسة سياسية ومالية تشرف على إعداد كوادر عسكرية لخوض معركة التحرير.

بموازاة ذلك، انطلقت عمليات المقاومة بقيادة منظمات فدائية أسسها وطغى على أغلب تشكيلاتها أبناء الريف الفلسطيني المنتشرين في الشتات، سرعان ما نشأ بينها وبين المنظمة "الوليدة" خلافٌ -تدخلت فيه كالعادة قوى إقليمية- أسفر عن استقالة الشقيري، وانضمام تشكيلات الفدائيين إلى منظمة التحرير لتحل مكان القيادات القديمة.

لا يمكن مناقشة هذا الطرح بمعزل عن جذوره، فخضوع فلسطين إلى احتلال تركي طويل أتبعه انتداب بريطاني أنتج تهميشاً وفقراً وأميّة وغياباً لفعاليات مجتمعية ممثلة، وبذلك ظهرت طبقة وسطى ضعيفة في المدن، إذ حظي بعض وجهائها بمكانة دينية أو امتلك إقطاعيات زراعية واسعة في الأرياف، وعليه كانت ثورة 1936 تعبيراً عن رفض الفلاحين –ثلثي أهل فلسطين- لتهميشهم الاجتماعي بالدرجة الأولى، وإن كان موجهاً ضد الإنجليز والعصابات اليهودية.

حُرم السواد الأعظم من الفلاحين تملّك أراضٍ زراعية، وعمِلوا لدى إقطاعيين يقطنون المدن، ولم ينالوا أيضاً تعليماً أو يتوارثوا التصوف الذي كان يؤهل صاحبه أن يصبح وجيهاً في حاضرته.

قد يستشهد كثيرون بحوادث تدل على جفاء العلاقة بين "الأفندية" وبين بسطاء الفلاحين، وسيحاول آخرون نفيها وذكر مشاركة قيادات مدينية في النضال الوطني، ذلك كلّه لا يلغي تشكل وعي لفئة اجتماعية تشعر بالظلم قياساً بنسبتها الوازنة، وربما قاد هذا الشعور إلى إهمال التخطيط في أثناء الثورة، وتقديم محاولات فاشلة لمنافسة العائلات المدنية على أساس التديّن وغيرها مما يستحق مراجعة نقدية في سياق آخر يتناول إحدى أبرز الثورات في القرن العشرين.

لم تحقق ثورة 1936 أهدافها، بل خضع الثوار لقبضة المستعمر وإملاءات المجتمع وتراتبيته مرة أخرى، وحلّت النكبة لتواصل الأنظمة العربية تعاملها مع الشعب الفلسطيني عبر زعاماتها التقليدية، التي لم يذق معظمها طعم اللجوء والمخيمات، فكان ذلك إيذاناً ببدء العمل المسلح بحثاً عن هوية جامعة، وقيادة ومشروع جديدين بعد أقل من عقدين.

فلسطين ليست استثناءً في محيطها العربي، فالريف المصري ويعده السوري والعراقي امتد نحو المدينة وأنهى حكم برجوازيتها، وشهدنا في الفترة نفسها، تقريباً، صعود طبقةٍ حاكمةٍ جديدة قوامها العسكر القادمون من الأطراف، وهم يتشابهون في وعيهم الاجتماعي والثقافي إلى حد بعيد مع أولئك الذين قادوا منظمة التحرير.

تعقد المقارنات في دول عربية بين حكْم المدينة ثم الريف، باستحضار الانفتاح والتعددية لدى أنصار النموذج الأول، والبناء والتنمية عند مؤيدي الثاني، ويتجاهل المعسكرين أن المواطنة وهي الأساس كانت مفتقدة، وأن الفساد وغياب العدالة والإقصاء هي سمات مشتركة في كلا العهدين.

لا تحضر هذه الثنائيات بالنظر إلى اختلاف الحالة الفلسطينية، التي لم تشهد نشوء سلطة إلاّ مؤخراً، غير أن منظمة التحرير قامت على فكرة تمثيل فئة مهمشة وهي اللاجئين من أبناء الريف، وإن لم تفصح بذلك شأن بقية الأنظمة العربية.

ليس مجدياً حساب تمثيل مكونات المجتمع بالأرقام والنسب، إنما لدى معاينة النخب التي حملت هذا الوعي، نلحظ أن عدم قدرتها على الاستمرار بمشروع التحرر الوطني؛ بمؤسسات وخطاب حداثوي علماني، ورغم ابتعاث المنظمة لمئات آلاف الطلبة للدراسة في الخارج طوال عقود ثلاثة، لكنها ظلت أسيرة بنى تقليدية تؤمن بالغيب، وتتحرك وفق منطلقات قبلية وعائلية ومناطقية، وترى فلسطينيتها أصلاً ونسبةً لا خياراً واعياً للانتماء إليه، وذهبت إلى تأليه قادتها، الذين ارتبطت مصالح بعضهم بقوى إقليمية ودولية تعادي الحرية والتحرر.

تماثل الأمر بين منظمة التحرير وبقية الأنظمة العربية بمهادنتها التيارات الدينية، للتغطية على فسادها واستبدادها، ما مهد لتقاسم المجتمع وفعاليته بين الإسلام السياسي و"زبائن" الحكْم، مع فارق واحد في الوضع الفلسطيني يتعلق بتمايز فريق عن آخر إذا ما تمسك بالمقاومة.

تطابق آخر فلسطيني/ عربي في تسعينيات القرن الماضي حين ظهر اتجاه ليبرالي ينادي بخصخصة دولة القطاع العام، وهو ما أسفر عن خلق شراكة بين الأمن ورجال الأعمال الجدد يديرون معاً حكْم البلاد، وهذا ما يتماهى مع اتفاق أوسلو الذي أنتج قيادة أمنية/ سياسية ورجال أعمال يكسبون صفقات تسهلها السلطة الفلسطينية.

ينهار نموذج الدولة العربية القطرية، ومنها سلطة رام الله، في الوقت الذي لم تتوحد فيه مجتمعاتنا في هوية تجمعها، إنما فاقمت الاحتقانات الاقتصادية واحتكارات السلطة من التفتت على أسس جهوية وطائفية ومذهبية، وفلسطين ليست منبتة عن امتدادها العربي؛ انقسامات عمودية: غزة وضفة/ لاجئ ومواطن/ العائدون مع أوسلو مع توزيعاتهم الشللية بحسب بلدان لجوئهم الأصلية/ مدني وفلاح وغيرها، ما زلنا إلى الآن لا نشهد تمثيلاً اجتماعياً خارج مفهوم المنشأ والاعتبارات الضيقة!

قامت منظمة التحرير من أجل عودة اللاجئين عبر الكفاح المسلح، لكنهم تركتهم اليوم شتاتاً لا يجمعهم حلم أو يحميهم مشروع وطني، ويبحث جزء منهم فقط عن أرض تقبل به، إذ عجزت عن ترسيخ الوطن في عقول مجاميع بشرية، بل وأصرّت على تمثيلها من خلال إثارة غرائزها ومضاعفة انقساماتها التي تبقيها معلقة بأوهام ميتافيزيقية أو تدخلات خارجية.


(كاتب أردني/ عمّان)