14 نوفمبر 2024
تجاوزوا الكذب وباتوا منْتحلي شخصية
السياسيون في الأنظمة الديمقراطية يكذبون بدايةً. وهم مرشحون، يكذبون. يعِدون بكذا وكيت من العجائب في ما يسمونها "برامجهم الانتخابية". وعندما يربحون، لا يوفون إلا بالنزر اليسير منها، فيستمرون بالكذب من أجل حماية ربحهم. قائد أكبر ديمقراطية في العالم، دونالد ترامب، يكذب، أيضاً، مثلهم. لكن كذبه يختلف: هو يصدُق في تنفيذ وعوده التي أغدقها على قاعدته الإنتخابية، المتوترة، البيضاء، المتعصّبة... لكنه يكذب في مجالات أخرى، كذبا "صناعياً"، متسلسلاً. والصحافيون الأميركيون لا يقصّرون في كشف أكاذيبه منذ اليوم الأول لتولّيه الرئاسة. صحيفة واشنطن بوست أحصت منذ شهرين 15431 كذبة اقترفها بعد ولايته هذه، بمعدّل خمس عشرة كذبة في اليوم. تؤازر الصحيفة خلية "تدقيق في الوقائع"، لملاحقة أكاذيب الرئيس المرْسلة. لكن نظرة سريعة إلى الأكاذيب الرئاسية التي نشرتها الصحيفة تبيّن أن غالبيتها، على خطورتها، تتّسم بالسذاجة. بل هي مضحكة لولا الخطورة هذه؛ إذ يسهل كشفها، بمجرّد العودة إلى وقائعها. لا يمكن في هذه العجالة عرضها كلها. حسنا، إليك أخفّها: ترامب يكذب مثلاً عندما يقول إن يوم تنصيبه رئيساً كان الحشد هائلاً، أو إن سلفه باراك أوباما ليس أميركياً، أو إنه لم يكن مؤيدا لغزو العراق أيام جورج بوش، أو إن مؤسسات ازدهرت بفضل خططه، أو إن صحيفتين مرموقتَين اعتذرتا منه على تقصيرها في تغطية أحد تحرّكاته، أو إن أكثر من 80% من الأميركيين الكوبيين صوّتوا له، أو إنه حصلت مجزرة في أثناء إلقاء سلفه أوباما أحد خطاباته... إلخ. وكلها وغيرها آلآف من الأكاذيب التي تأخذ "خلية التدقيق" على عاتقها مهمة كشفها، وعلى مدار الليل والنهار.
وإذا ما قارنتَ أكاذيب ترامب بالتي يتولاها سياسيو بلادنا، ذات "النظام الديمقراطي"، ستجد أن
ترامب طفل يحبو أمامهم بأكاذيبه الحمقاء. ضفائر أكاذيبهم، طبقات أكاذيبهم، تتداخل ببعضها، تتشابك، مثل الخيطان الناعمة، فتعقّدها لكي توثّقها. تجعلهم معلمين، أساتذة، يجدر بمدارس الكذب أن تأخذهم على عاتقها. هم الذين أتوا على ظهر أبناء جمهورهم الطائفي، وضربوا مؤسسات الدولة، وعبثوا بالقانون والدستور وبمصالح العباد، وأحيوا روح المليشيات النائمة، المليشيات بأنواعها... هؤلاء أنفسهم يخاطبون الناس والإعلام والجمهور، وكل من يفضي إلى الملأ... ببراءة من يجهل موقعه. خذْ مثلا: يندهشون فجأة، ليستنكروا بأقصى العبارات... ضعف الدولة، غيابها، استشراس الطائفية، الأذى الذي تلحقه "ممارسات الطبقة السياسية" بالبلاد؛ ينتقدون الحكومة التي يرأسونها، والتي ألفوها من ألفها إلى يائها، وقد تناتَشوا شهوراً على وزاراتها... ويردّدون، كلما اقترب منهم طيفُهم، الكلام نفسه، بحماسة المصدِّق الصادق، وبنظراتٍ رومنطيقية، تودّ حجب كذبةٍ جديدةٍ هم بصدد الإدلاء بها. فيحار المواطن البسيط في أمره، يرتبك: لا يصدّق أحيانا أن هذا كله كذبٌ بكذب، ولكنه يحتاج إلى تصنيفه، طالما أنه كذبٌ يتجاوز مخيّلة الرئيس الأميركي، الكذاب رقم واحد على هذا الكوكب. فهذا كذبٌ لبناني، من نوع خاص، يمكن إدراجه في خانة "انتحال الصفة". صفة الواحد منهم، دوره، أو وظيفته، هي أنهم رجال حكم ودولة، المفترض أنه ساهر على مصالحنا، مؤتمنٌ على خيراتنا... إلخ. ولكنهم، عندما تقع واحدة من شوائب حكمهم أمام النظر العام، يتحوّلون إلى مواطنين، ينقّون، يندّدون، مثلهم، ويكرِّرون السؤال الذي تحوّل، مع الوقت، إلى نبع من المُضْحكات: "وينيّه الدولة؟" (أين هي الدولة؟)، وكأنهم غرباء عنها، مثل المواطن البسيط.
عند هذا الحدّ، كان الكذب بانتحال صفة المواطن البسيط، والمهموم بقضايا الناس، يمرّ على اللبنانيين كيفما اتفق؛ يبالون حيناً، وييأسون أحياناً، ملَلا أو تعباً أو قرفاً. ثم جاءت ثورة 17 أكتوبر، وقلبت الدنيا بإعلانها الحقائق الدامغة. أن هؤلاء الذين يرتدون هندام المسؤولية إنما هم لصوص، زعران، لا ينتسبون إلا لجيوبهم ومصالحهم وامتيازاتهم. يتساوون بالمسؤولية، كأسنان المشط. الثورة لم تنطق صفة "الكذابين" عليهم، لكنها جهرت، منذ لحظة اندلاعها الأولى، بعداوتها أشهر كذاب في الجمهورية: جبران باسيل. أقول "الأشهر"، وقد لا يكون "الأكثر" كذباً؛ فقط لسبب بسيط أن حضوره الإعلامي اليومي على الشاشة، وتباهيه بأكاذيبه، فتحا عليه أبواب عداوة الثورة له، بشتائمها وسخريتها وأهازيجها. ربما أيضاً ثمّة من يكذب بعلانية أقلّ، بدهاء أكبر، بترتيب لأكاذيبه بحيث تصبح متكاملة، متناسقة. وهذا على كل حال دليل قوته، واعتزازه بهذه القوة. ولكذبه مجال خاص..
المهم، بعد ذلك، ماذا فعل "الحكام، المسؤولون"؟ نسجوا على سجادة الثورة أكاذيب مركّبة أخرى؛ استمدّوا من أكاذيبهم السابقة على الثورة المدَد الكافي، ليجدّدوا "انْتحال الصفة" بما توفَّر لديهم من حيلة: جميعهم، بمن فيهم من كانوا يرسلون شبّيحتهم لضرب الثوار، قالوا، بطريقة أو بأخرى، إنهم مع مطالب الثورة. بعضهم قال إنه أصلا ًسبق الثورة منذ دهر. وقال بعض آخر إن مطالب الثورة على رأسه، أو في قلبه على الدوام، أو إنه استجاب لضغوطها. حتى رئيس الحكومة الشبح المجْلوب من العَتَمة، يكرّر أنه مع الثوار، يعمل على خدمتهم، ويصوغ برنامج على قدّ مطالبهم.
وبما أننا أمام كذبٍ لا يمكن أن يبقى مستوراً إلا بتوليده مزيدا من الكذبات، وليثبتوا أن أقوالهم
ليست زوراً، يستمر "الحكام، المسؤولون" في كذبة الانتحال هذه، فماذا يفعلون؟ يفرّعونها، فيخوضون المعركة المطلوبة ضد الفساد، بأن يكشفوه عند خصومهم من الشركاء. كل واحد منهم "نزيه"، لم يمدّ يده للمال العام. خاض معارك طاحنة على مكامن الفساد، ومعه إثباتات وملفات... لكن هؤلاء الخصوم "منعوه، عرقلوه، وضعوا العصيّ بدواليبه...". الجميع منعَ الجميع من مكافحة الفساد. كأنك تقول "كلن يعني كلن" (كلهم يعني كلهم).
والتطور الكاذب الآخر، حصل قبل أيام: اجتمع "رجالات الدولة" في قدّاس للاحتفال بقديس الموارنة مار مارون. وكان واعظ الاحتفال راعي أبرشية بيروت المطران بولس عبد الساتر. قال المطران، في هذه الموعظة، كلمات التأييد للثوار، وكلمات أخرى، قاسية وصريحة بحق هؤلاء المسؤولين: أنّبهم على خطابهم القائم على "التعصب والتفرقة"، وبّخهم على سلوكياتهم. مما قال "من يحسب الوطن ملكية له ولأولاده من بعده ويحتكر السلطة، ويستبد ويظلم من وثقوا به، ليس زعيما وطنيا ولا مسؤولا صالحا". فماذا كانت أولى ردود فعل أولئك "المسؤولين"، الذين حولوا حيّ الجميزة، حيث القداس، إلى قلعةٍ أمنية عسكرية، وإلا لما حضروا. ماذا كانت...؟ كانت كذبة انتحال صفة إضافية، بأنهم صفّقوا للمطران بحرارة. حسنا. قلنا هذا ربما تهذيب وبرتوكول. ولكن، بعد ذلك بدقائق، كان نوابٌ ممن حضروا القدّاس، وكانوا ممن استهدفهم المطران، يطلقون تغريداتٍ تبلور الكذبة أكثر فأكثر، وتحوّلها إلى بالون منفوخ حتى آخره، يحلّق عالياً، يراه الجميع. علّق هؤلاء وكأن عظة المطران كانت تمتدحهم، تقف إلى جانبهم. واحد منهم قال "عِظة المطران عبد الساتر أسقطت ما يسمى بثورة وثوار أقرب إلى المليشيات وقطّاع الطرق" (ناقضا كلاما سابقا عن تأييده مطالب الثورة)؛ فيما الآخر وصف العظة بأنها "صرخة ضمير كل لبناني شريف" أو أنها ذكّرته "بخطاب القسم التاريخي للرئيس ميشال عون"... وإلى ما هنالك من جدائل كذب إضافية، تعقد أكثر فأكثر مهمة التمييز بين الشخصيتين، المنْتحلة والحقيقية، فكانت الفكاهة، مرة أخرى، خير معين، إذ علّق أحدهم إن "الدنيا كانت تمْطر" عندما أطلق أولئك النواب تغريداتهم...
الثورة أبطلتْ مفعول الكذب. أعلنت الحقيقة؛ أنهم كانوا يكذبون علينا، كذبا يكاد يكون مطلقا. لذلك، لم تعد الثورة تكتفي بـ"نسبية" الأكاذيب، ولا بالتالي بنسبية الحقائق الموازية لها. تطمح إلى التعرية التامة، إلى الكشف الكامل، بل ربما إلى إعادة قراءة للتاريخ القريب، السابق على الثورة. كما تفعل الثورات الجديرة باسمها.
عند هذا الحدّ، كان الكذب بانتحال صفة المواطن البسيط، والمهموم بقضايا الناس، يمرّ على اللبنانيين كيفما اتفق؛ يبالون حيناً، وييأسون أحياناً، ملَلا أو تعباً أو قرفاً. ثم جاءت ثورة 17 أكتوبر، وقلبت الدنيا بإعلانها الحقائق الدامغة. أن هؤلاء الذين يرتدون هندام المسؤولية إنما هم لصوص، زعران، لا ينتسبون إلا لجيوبهم ومصالحهم وامتيازاتهم. يتساوون بالمسؤولية، كأسنان المشط. الثورة لم تنطق صفة "الكذابين" عليهم، لكنها جهرت، منذ لحظة اندلاعها الأولى، بعداوتها أشهر كذاب في الجمهورية: جبران باسيل. أقول "الأشهر"، وقد لا يكون "الأكثر" كذباً؛ فقط لسبب بسيط أن حضوره الإعلامي اليومي على الشاشة، وتباهيه بأكاذيبه، فتحا عليه أبواب عداوة الثورة له، بشتائمها وسخريتها وأهازيجها. ربما أيضاً ثمّة من يكذب بعلانية أقلّ، بدهاء أكبر، بترتيب لأكاذيبه بحيث تصبح متكاملة، متناسقة. وهذا على كل حال دليل قوته، واعتزازه بهذه القوة. ولكذبه مجال خاص..
المهم، بعد ذلك، ماذا فعل "الحكام، المسؤولون"؟ نسجوا على سجادة الثورة أكاذيب مركّبة أخرى؛ استمدّوا من أكاذيبهم السابقة على الثورة المدَد الكافي، ليجدّدوا "انْتحال الصفة" بما توفَّر لديهم من حيلة: جميعهم، بمن فيهم من كانوا يرسلون شبّيحتهم لضرب الثوار، قالوا، بطريقة أو بأخرى، إنهم مع مطالب الثورة. بعضهم قال إنه أصلا ًسبق الثورة منذ دهر. وقال بعض آخر إن مطالب الثورة على رأسه، أو في قلبه على الدوام، أو إنه استجاب لضغوطها. حتى رئيس الحكومة الشبح المجْلوب من العَتَمة، يكرّر أنه مع الثوار، يعمل على خدمتهم، ويصوغ برنامج على قدّ مطالبهم.
وبما أننا أمام كذبٍ لا يمكن أن يبقى مستوراً إلا بتوليده مزيدا من الكذبات، وليثبتوا أن أقوالهم
والتطور الكاذب الآخر، حصل قبل أيام: اجتمع "رجالات الدولة" في قدّاس للاحتفال بقديس الموارنة مار مارون. وكان واعظ الاحتفال راعي أبرشية بيروت المطران بولس عبد الساتر. قال المطران، في هذه الموعظة، كلمات التأييد للثوار، وكلمات أخرى، قاسية وصريحة بحق هؤلاء المسؤولين: أنّبهم على خطابهم القائم على "التعصب والتفرقة"، وبّخهم على سلوكياتهم. مما قال "من يحسب الوطن ملكية له ولأولاده من بعده ويحتكر السلطة، ويستبد ويظلم من وثقوا به، ليس زعيما وطنيا ولا مسؤولا صالحا". فماذا كانت أولى ردود فعل أولئك "المسؤولين"، الذين حولوا حيّ الجميزة، حيث القداس، إلى قلعةٍ أمنية عسكرية، وإلا لما حضروا. ماذا كانت...؟ كانت كذبة انتحال صفة إضافية، بأنهم صفّقوا للمطران بحرارة. حسنا. قلنا هذا ربما تهذيب وبرتوكول. ولكن، بعد ذلك بدقائق، كان نوابٌ ممن حضروا القدّاس، وكانوا ممن استهدفهم المطران، يطلقون تغريداتٍ تبلور الكذبة أكثر فأكثر، وتحوّلها إلى بالون منفوخ حتى آخره، يحلّق عالياً، يراه الجميع. علّق هؤلاء وكأن عظة المطران كانت تمتدحهم، تقف إلى جانبهم. واحد منهم قال "عِظة المطران عبد الساتر أسقطت ما يسمى بثورة وثوار أقرب إلى المليشيات وقطّاع الطرق" (ناقضا كلاما سابقا عن تأييده مطالب الثورة)؛ فيما الآخر وصف العظة بأنها "صرخة ضمير كل لبناني شريف" أو أنها ذكّرته "بخطاب القسم التاريخي للرئيس ميشال عون"... وإلى ما هنالك من جدائل كذب إضافية، تعقد أكثر فأكثر مهمة التمييز بين الشخصيتين، المنْتحلة والحقيقية، فكانت الفكاهة، مرة أخرى، خير معين، إذ علّق أحدهم إن "الدنيا كانت تمْطر" عندما أطلق أولئك النواب تغريداتهم...
الثورة أبطلتْ مفعول الكذب. أعلنت الحقيقة؛ أنهم كانوا يكذبون علينا، كذبا يكاد يكون مطلقا. لذلك، لم تعد الثورة تكتفي بـ"نسبية" الأكاذيب، ولا بالتالي بنسبية الحقائق الموازية لها. تطمح إلى التعرية التامة، إلى الكشف الكامل، بل ربما إلى إعادة قراءة للتاريخ القريب، السابق على الثورة. كما تفعل الثورات الجديرة باسمها.