تجارة البؤس

09 يناير 2020
+ الخط -
"التجارة شطارة" بهذه الجملة المهيبة افتتح الكلام بيننا حتى ظننت أنه أحد الباعة العتاة ممن لهم صيت في الأنحاء وسمعتهم تسبقهم في البيع والشراء، وكدت أتيقن من ذلك بعدما أحضر لي كرسياً وفنجان قهوة من كرم ضيافته، ثم جلست أتصفح الجريدة اليومية التي تتشابه فيها أخبار اليوم بأخبار الأمس رغم اختلاف العناوين.

من بعيد لبعيد تابعته وبين لحظة وثانية كنت أختلس نظرة أو نظرتين لما يفعله، إنه حقاً تاجر بكل ما تحمله الكلمة، يعربد في عقل الزبون، يبيع له الهواء، يسكره بكلماته العذبة وينثر التآلف في القلب ببساطته، متبعاً ذلك المثل المتكرر على لسانه: "خلي البُساط أحمدي، فكلنا ولاد تسعة"، فإذا كان الزبون لا يعجبه شيء لا يجعله يخرج من عنده إلا وقد ابتاع شيئاً غيره وهو راض تمام الرضا، وإذا أعجبه شيء من البداية يجعله يشتري منه الكثير عن يقين بأنه لن يلاقي مثله في مكان آخر.

إنها النصاحة والبديهة الحاضرة واللسان الذي لا تشوبه أي إساءة، فيحيل الكلمات خمرة تثمل القلب، حتى ظننت أن قلب الواحد منّا في أذنيه، فما أن سمع مدحاً أو أحس بحلو الكلام، حتى وإن كان نفاقاً، يميل ويفتح آبار نفسه، فيجعل هذا الشخص يسحب دلواً تلو الآخر من أسراره، وإن كانت أسراراً لا تعرفها إلا زوجته، أخذت أول رشفة من فنجان القهوة وأنا أراقبه "كالبهلوان" الذي ينصب سيركه الخاص على الطاولة.


بعدما فرغ تماماً من البيع والشراء جلس بجواري يلاحق أنفاس النارجيلة وهو يقول:
"ألف لا بأس على الست خالتك يا بيه، هي بصحيح ست زي الفل وعمرها ما كسرت خاطر حد لكنه المرض الله يلعنه".

فقلت: "الدنيا كدا نعمل إيه ربنا يخفف عنها، لكن أنت متأكد إنهم راحوا المستشفى الصبح؟ أصل أنا كنت عامل حسابي ألاقيهم".

فقال: "آه الصبح راحوا على المستشفى، أنت انتظرهم هنا وتشرفنا بمعرفتك يا بيه، ورانا إيه يعني، صدقني أنا قلبي اتفتح لك".

كنت قلقاً بشأن جملته الأخيرة، ولا أعلم أهذا بدافع طبعي القلق أم أن الجملة تحمل في ثناياها شيئاً سيدفعني بضرورة الحال أن أفتح قلبي له كما سيفتح قلبه لي، وما أن أتم جملته حتى بدأت وصلة البؤس والكلام عن العائلة والأولاد، وكيف أن ولده الصغير لا يريد أن يذهب للمدرسة الخاصة التي ألحقه بها: "ابن الكلب مش غاوي علام، إنما نقول إيه غير انه ابن كلب". وأنا أستمع إليه والغرابة تملأ نظرتي والعجب يقتلني، لما تذكرت ابني محمد الذي حاولت إقناعه أن المدرسة أعطته إجازة لمدة أسبوعين، وهو يثق في والده فكانت الثقة القاتلة التي قادته إلى أن يصدق كلامي، وفي حقيقة الأمر أني عجزت عن دفع مصاريف المدرسة وقد أعطاني الناظر مهلة مدتها أسبوعان لدفع المصاريف وإلا الفصل النهائي.

ثم يكمل كلامه الذي تحول من الكلام العذب الذي كان يتاجر فيه ويبيع به أي شيء للزبون إلى نبرة الساخط الماقت الكاره للحياة، ثم انتقل من مدرسة ابنه لزواج ابنته التي ترفض أي شخص يطلب يدها للزواج: "قال إيه لما أكمل تعليمي، تعليم إيه أم تعليم دي، أنا خايف يكون وراها حاجه وخايفة تقولها لي". وأنا أتذكر ابنتي التي ماتت وهي خارجه من رحم أمها وكأن روح الأم كانت متعلقة بروحها فما أن ماتت البنت حتى تبعتها أمها.

وأنا ما زلت أستمع لأقاصيصه التي لا تنتهي عن الشكوى والتبرم والملق وكيف أن "الدكان اللي حيلته حاله واقف ويكفي مصاريف بيته بالعافية" حسبما يقول. ولمحت ابنة خالتي قد جاءت بدونها فسألتها عن خالتي إذا تركتها في المستشفى، فقالت إنها في حالة جيدة لكنها جاءت لكي تضع ملابسها وتروح للشغل، فهي لا تتحمل "خصم" يوم واحد فـ"الحالة ضنك".

وأخرجت فكرة زيارة خالتي في المستشفى ورحلت عن المنطقة، وحاوطني الاكتئاب ولا أدري لماذا، فالتاجر الذي كنت معه في الصباح قد باع لي شيئاً آخر، فهو ليس تاجر بقالة فقط إنه تاجر في أمور غير ملموسة ولكنها معنوية محسوسة، إنه أستاذ في بيع البؤس وتجارة الأحزان!

وما أن همدت جثتي على السرير حتى أمسكت "الموبايل" وتصفحت مواقع التواصل الاجتماعي، تنقلت بين "الفيسبوك" و"الواتساب" هرباً من عالمي الواقعي الذي أصبح بائساً إلى عالمي الافتراضي لملاقاة نكتة أو شيء يحمل من السخرية التي من الممكن أن تزيل عني هموم اليوم، لم ألاقِ ما توقعته، ولكن ما وجدته حالات أصدقائي الذين غلبتهم مآسيهم وتمردوا على افتراضية واقعهم في واقعهم الافتراضي..

حينها أدركت أنه لن يشعر بمأساتك أحد غيرك، لأن ما هو كبير في نظرك صغير في عيني غيرك، وكل صغير في عينيك يصير كبيراً بناظري غيرك، وتيقنت أن كلاً منّا لديه مأساته الخاصة.
دلالات
A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.