تجارب في القراءة

28 مارس 2014
باول كوشينسكي/ بولندا
+ الخط -

كنيكارونسية حقيقية، كانت الكتب الأولى التي تحتفظ بها ذاكرتي هي مؤلفات روبن داريو، إذ يُعتبر من التقاليد المقدسة في بلدي أن تحفظ عدداً من قصائده وتلقيها على مسامع ضيوفك في البيت أو في النشاطات المدرسية والفعاليات الثقافية بعامة.

كان هواء حديقتنا يهفو برائحة الياسمين وجدار السور مزيناً بالرخام. وهكذا فقد كان المنزل يعرض هالة خضراء وكنت أردد كل مساء أشعار داريو، بيتاً بيتاً، كلمة كلمة. أعماله الكاملة كانت كتابي المقدس الصغير، جلد الغلاف الأسود كأنما هو لبّ القهوة، حروفه من ذهب وأوراقه كأنما هي أوراق زينة. هذا الكنز كان جزءاً من الكتب التي أوليتها عناية خاصة. بعده تأتي الكتب التي اعتبرتها "اكتشافاً شخصيّاً"؛ إذ لم يحدّثني أحدٌ عنها لكنها كانت تختبئ في زوايا الرفوف، مغبرّة، منسية ومدفونة.

قصص هانز كريستيان أندرسن كانت من أوائل القصص التي قرأتها، وقد قضيت ستة أو سبعة أشهر دون أن أتمكن من تركها. أنام مع الكتاب وأحياناً أخبئه تحت وسادتي باعتباره ثروتي الوحيدة.

ثم كانت "ألف ليلة وليلة". مجلدان ورديّان سميكان، على غلافيهما كتب: "الطبعة الكاملة بالإسبانية". وقعت في حب الحروف عند الوهلة الأولى. فيها رأيت ثراء بغداد وحواضر أخرى، كل ذلك اجتمع في صوت أفضل حكواتية على مر الأزمان: شهرزاد.

الجمل في هذا الكتاب كانت تتشابك راسمة عالماً داخل عالم، كلعبة الماتريوشكا، واحدة داخل الأخرى، دون أن تفقد قيمتها: إذ يمكن لهذه الحياة والكلمة والأدب أن ينقذونا.

ليست القراءة سوى تجربة حتى لو كانت قراءة الكتاب ذاته، وهي تختلف من قارئ إلى آخر. قرأت هذين المجلدين مرتين، الأولى في الرابعة عشرة من عمري وقد تركت فيّ أثراً لا يمحى. ومع مرور السنين، عرفت عن الترجمات، عن مبدأ اللانهائية من خلال "الليالي السبع" لبورخيس.

واحدة من هذه الليالي، كانت تلك التي شعرت بأنني جزء منها. نافذة نظيفة تطل على جذر شجرة قوي حيث وصل سرفانتس نفسه للتعارف من خلال عالم الخيال والأدب إن جاز التعبير، لكنها معرفة أثارت في النهاية نقاشات ساخنة ومحيطات من الحبر.

وعلى ذكر الترجمات التي لطالما شغلت بال كثير من المؤرخين والكتاب والمترجمين والنقاد والقراء والفضوليين بعامة، من المرجح أن يكون مؤلف دون كيخوته هو العربي المدعو سيدي حامد بن الجيلي.

في ما بعد تعرفت إلى مترجمين عرب يُترجمون عن الإسبانية وأوضحوا لي أن تلك الليالي اللانهائية التي أشعر بأنني جزء منها وهي مني لم تكن في الأصل عربية، بل فارسية وهندية، لكن وبالتأكيد فيها الكثير من الثقافة العربية والإسلامية بدءاً بأهم ما يميزها وهو لفظ الجلالة "الله" لتكون ألف ليلة وليلة تمثل الاندماج بين عناصر الشرق في تلك الحقبة. وكانت تلك حكايتي حينما قرأت بأم عيني وبخطّ كبير كلمة "الله".

"وأدرك شهريار الصباح فسكتت عن الكلام المباح"، لكني أقول لقراء شهرزاد: في المرة المقبلة سأروي لكم كيف تعرّفت إلى العربي المسلم (عبد الله) وقبّلته.




* Eunice Shade كاتبة من نيكاراغوا

ترجمة: غدير أبو سنينة

المساهمون