تبدّد وهم "شارلي إيبدو" وبيان "غياب الإجماع"

14 ابريل 2015
عادت "شارلي إيبدو" لحجمها الطبيعي (فيليب هوغين/فرانس برس)
+ الخط -
انطفأت شعلة اعتداءات "شارلي إيبدو"، بعد ثلاثة أشهر من قيامها، على الرغم من رغبة جهات فرنسية، بأن تستمر الروحيّة التي رافقتها، والتي تمثلت في التظاهرات الضخمة والتضامن الواسع مع الضحايا.
كما عادت صحيفة "شارلي إيبدو"، إلى مكانها الطبيعي، بعدما عملت دون كلل أو ملل على إذكاء الشعلة واستغلال الاعتداءات. عادت كصحيفة لا تتلقفها الأيادي وتنتظم لشرائها الصفوف، على خلاف ما حدث مع العدد الأول بعد الاعتداء الإرهابي.

وما حاولت الصحافة الفرنسية، في "هستيريتها" الأولى وإجماعها الوطني غير المسبوق، جاهدة أن تخفيه، يظهر الآن بشكل واضح، وهو أنّ الأحياء الشعبية الفرنسية، التي اعترف رئيس الوزراء نفسه مانويل فالس بأنها تعيش "أبرتهايد"، اقتصادي واجتماعي، كانت غائبة عن المشهد. ولم يُخف كثيرون من سكان هذه الأحياء حقيقة أنّ الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، هو وحده، من يزال يتعلق بخشبة "روحية 11 سبتمبر"، وقد كررها، قبل أسبوع فقط، خلال زيارته منطقة إيزيو لإحياء ذكرى الأطفال اليهود المُرحَّلين إلى معسكرات الاعتقال النازية.

ولم يجد الفيلسوف ريجيس دوبريه بُدّاً من اعتبار هذه الروحية "انفعالاً" و"وَهماً". وقال في حوار مع صحيفة "لاكَرْوا"، يوم الجمعة الماضي: "لاحظتُ على الفور أنه لم يتولد أي تنظيم عن هذا التجمع، وهذا من صميم الأحداث المدوية التي تتساقط من تلقاء نفسها. كان الأمر محسوساً. وكان ثمة كثيرٌ من سوء الفهم والغموض. الجميع كان حاضراً، ولكن ليس لنفس الأسباب".

وأقرّ دوبريه "أننا اكتشفنا فوراً، أن الضواحي لم تأت، وأن القوى المهيمنة كانت توجد فيما بينها". ورأى أنّ ما اعتبره أربعة ملايين متظاهر مقدّساً، رآه 400 مليون شخص مدنّساً. وقال، في نوع من السخرية، إنه "ليس من السهل أن تزهر الجمهورية العلمانية في عالم ينقص فيه الجمهوريون كل يوم، وحيث يعتبر الكثيرُ من المغاربة أنفسهم، من الآن فصاعداً، مسلمين، وكثير من الإسرائيليين يرون أنفسهم يهودا، وكثير من الهنود يرون أنفسهم هندوسيين".

اقرأ أيضاً (مسلمو فرنسا يناقشون وجودهم وعلاقتهم بالغرب)

وطالب المفكر بـ"الدخول في صلب الموضوع، ومنح العلمانية تحديداً واضحاً. وسوف نكتشف أن العلمانية لن تكون، في كل الأحوال، ديانة مضادة، ولكن فقط إطاراً قانونياً. وأبدى ذهوله من نهاية تظاهرة 11 يناير/كانون الثاني الكبرى، التي كرّمت العلمانية، في كنيس يهودي، حيث انعقد فيه نوع من اللقاءات السياسية. وقال: "حين يحمل رئيس الجمهورية قلنسوة يهودية فوق رأسه وليس قبعة، يمكن أن نرى في الأمر إساءة جدية للعلمانية الجمهورية. من المؤكد أنها تفاصيل بروتوكولية، ولكنها تُبرِزُ أن حكوماتنا ليست جدية في ممارستها للعلمانية". واعتبر أن السلطة السياسية الفرنسية "لم تستخلص من الحدث أي استراتيجية ولا رؤية للعالَم ولا حتى تنظيماً جديداً للدبلوماسية".

هجمات إلكترونية غير مسبوقة
وفي ظل هذه الأجواء شهدت فرنسا قبل يومين هجوماً إلكترونياً غير مسبوق في تاريخ التلفزيون؛ إذ تعرضت قناة "تي في 5 موند"، التي تموّلها فرنسا ودول فرنكوفونية مثل سويسرا وكندا والكيبيك وبلجيكا الفرنكوفونية، لهجوم كاسح، يوم الأربعاء الماضي من قبل قراصنة زعموا انتماءهم لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، مستهدفين 11 قناة تلفزيونية تابعة لها، إضافة إلى مواقعها وصفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي.

واعترف مدير القناة إيف بيكوت، أن الهجوم "كان مُركَّزاً وقوياً". وأعلن القراصنة المهاجمون ولاءهم لما سموه "الخلافة الإلكترونية"، التي يمارسون من أجلها "جهادهم الإلكتروني" ضد "أعداء الدولة الإسلامية". ولم يكن الأمر يتعلق بالهجوم الأول فقد سبق لهم هاجموا مواقع أخرى ومن بينها قيادة القوات الأميركية في الشرق الأوسط  ومجلة "نيوزويك"، واستهدفوا حتى عائلة الرئيس الأميركي باراك أوباما.

ورأت صحيفة "لوفيغارو" الهجوم غير المسبوق بأنه "سلاح الإسلامويين الجديد"، ويمثل تهديداً جدياً لفرنسا. فيما طالبت الحكومة وسائلَ الميديا بتوخي الحذر واليقظة، ولم تستبعد هجمات أخرى مقبلة.

وفي السياق، تحركت الإدارة العامة للأمن الداخلي وإدارة مكافحة الإرهاب والشرطة الإلكترونية التابعة للإدارة المركزية للشرطة القضائية، لتتبع القضية وتم فتح تحقيق في الأمر. مع العلم أن فرنسا تعرضت في الأسبوع الأول بعد 7 يناير/كانون الثاني لأكثر من 1500 هجوم إلكتروني، متفاوتة الخطورة والحجم. وإذا كانت فرنسا، لحد الساعة، لم تشهد هجمات مؤثرة كما العديد من الدول الأخرى، إلا أن الخبراء الفرنسيين، لا يخفون قلقهم من "تهديدات تخريب إلكترونية تستهدف تدمير معطيات الحواسيب، وكذلك شلّ وحدات الإنتاج صناعية واستراتيجية".

وفي هذه الأثناء، يناقش البرلمان الفرنسي مشروع قانون حول المعلومات الاستخباراتية، والذي يثير قلقاً كبيراً لدى المدافعين عن الحريات الفردية. كما أن خمسة، على الأقل، من مُشغّلي المعطيات المعلوماتية الفرنسية يهددون بمغادرة فرنسا إذا ما تمّ تطبيق مشروع القانون الجديد "كي لا يخسروا زبائنهم".

ويعود السبب الرئيسي لرفض هؤلاء المشغلين للقانون إلى "التقاط السلطات الفرنسية المختصة لمعطيات الاتصال، في زمن حقيقي، وتحليلها من قبل أجهزة الاستخبارات من خلال علب سوداء. ويهدف مشروع القانون الفرنسي إلى "إحداث إجراء تحليل تلقائي للمعطيات، التي يفترض أنّها تشكل خطراً إرهابياً من قبل جهاز الاستخبارات"، وهو ما يعتبره معارضو القرار بمثابة "علبة سوداء".
            
ويرى المشغلون أن مشروع القرار لن يحقق أهدافه وسيضع كل فرنسي تحت المراقبة، ويُدمّر جزءاً كبيراً من النشاط الاقتصادي في فرنسا.