15 سبتمبر 2019
تأملات في الثورة المهدية
محمد الشبراوي (مصر)
على بعد 490 كلم من عطبرة، وقبل 174 عامًا، ولد محمد أحمد في جزيرة لبب، وعند بلوغه سن 38 خلع على نفسه لقب (المهدي). قد تحدث نقلة نوعية في حياة المرء؛ حصوله على شهادة الماجستير أو الدكتوراه أو منصبٍ ما، لكن أن يختار لنفسه عباءة المهدي، فقصةٌ أخرى.
في بواكير حياته، التحق بأحد الكتاتيب ودرس الصوفية، وانتظم في سلك الطريقة السمانية وذاع صيته وصار قطبًا؛ فاشتعلت نار الخلاف بينه وبين شيخه محمد الشريف، وانقلب الخلاف عداءً مكشوف الوجه، وقرّر الشريف تجريد تلميذه من الرتبة الممنوحة إليه.
بعد هذه الحادثة، التحق محمد أحمد بالشيخ القرشي، قرر أن يغرس في آذان الناس بذورًا جديدة؛ فجاء عام 1880 وقد انتقل الرجل من الصوفية إلى المهدية.. هل تتخيل أن ينقل الطالب نفسه من التعليم الأساسي إلى الدكتوراه؟ أسمعت بهذه القفزة الجامحة الجانحة من قبل؟ هل شاهدتها حتى في أفلام هوليوود؟
يميل كثيرون إلى تبجيل أنفسهم، ويخلعون عليها لمسة من القداسة من دون وجه حق، وجاءت قفزة القطب على هذه الشاكلة، واستثمر رعونة بعضهم، ووظف الاستخفاف بما خدمه؛ فوصية الشيخ القرشي اختصرت له الطريق، وفيها: "إن زمن المهدي قد حان، وإن الذي يشيد على ضريحي قبة ويختن أولادي هو المهدي المنتظر".
شروط المهدية في متناول اليد، وأن تبني قبة وتختن أولاد القرشي لقاء لقب المهدي لأمر هين، وطفق محمد أحمد ينفذ متطلبات الحصول على شهادة المهدي. وبتحقيق المتطلبات، انتزع اعتراف بعض مريدي القرشي، وأُعلِن في غرة شعبان 1298هجرية، الموافق 29 يونيو/ حزيران 1881، ظهور المهدي رسميًا في جزيرة أبا، وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد باشر تنصيبه مهديًا بصورة نهائية في مجمع الخلفاء والأولياء، وأنه كُلِّفَ بالدعوة إلى مهديته، وأرسل مكاتيب ومنشورات داعيًا للدخول في رحاب مهديته.
صادفت دعوة المهدي هوى في أنفس كثيرين؛ فالأوضاع الاقتصادية والسياسية الضاغطة تدفع الناس إلى الثورة، وعند الغرق يتعلق المرء بقشة علها تنجيه، وكان بين الجموع منجم من أهل البقارة، يدعى عبد الله التعايشي؛ فرأى أن يغتنم السانحة، وأن يشمر للقرد في دولته، وعقد عزمه على أن يضرب بسهم. دخل التعايشي على المهدي، وخر بين يديه ساجدًا مدعيًا أنه أغمي عليه، ولما سئل عن السالفة قال: "نظرت أنوار المهدية على وجهه؛ فصعقت من شدة تأثيرها على حواسي".
ربما كان المهدي يتشكك في مهديته ولو قليلًا، لكن ثقته في مهديته ارتفعت بسجدة التعايشي وكلماته، ومعها ارتفعت مكانة التعايشي؛ فخلع المهدي على المنجم مرتبة الخليفة الأول، ثم قسَّم أصحابه إلى طوائف، منهم أربعة خلفاء راشدين، على رأسهم التعايشي.
خرج الناس يناصرون المهدي لأسباب وجيهة؛ فقد تكاثرت مظالم الرجل المريض (الدولة التركية)، وقد أثقلت الضرائب كواهل السودانيين، واحتكرت طغمة الحكم مقدرات البلاد، واختزلت السودان في مطامعها وأهملت الشعب. ركب البعض موجة الاعتقاد الديني، واتخذ الدين مطية لأهداف سياسية؛ فتابعوا المهدي مع يقينهم بكذبه، لكن الاستياء العام وضعف النظام القائم وتراجع مستوى المعيشة، وإلغاء تجارة الرقيق وحدوث انهيار اقتصادي، وتحطيم مجتمع الجلايا والجعليين والدناقلة، أبرز العوامل التي تضافرت لإنجاح الثورة المهدية.
واجهت الثورة المهدية تحديات إقليمية؛ فالدولة المصرية لا تريد نجاح المهدي، وتشاركها الأطماع البريطانية الهدف نفسه، لكن بريطانيا تود إحراج مصر أولًا، وكان ذلك من حسن حظ المهدي؛ فكسر حملة راشد أيمن، ومن بعده حملة يوسف باشا الشلالي، ثم حملة هيكس وكذلك حملة تشارلي غوردون، وسقطت الخرطوم في يد المهدي.
لم يعش المهدي طويلًا بعد السيطرة على الخرطوم، وبعد إصابته بالحمى لأسبوع، انطفأت شمعة ربيع عمره الأربعين سنة 1885، وجاءت سنوات التعايشي، والأيام دول.
في بواكير حياته، التحق بأحد الكتاتيب ودرس الصوفية، وانتظم في سلك الطريقة السمانية وذاع صيته وصار قطبًا؛ فاشتعلت نار الخلاف بينه وبين شيخه محمد الشريف، وانقلب الخلاف عداءً مكشوف الوجه، وقرّر الشريف تجريد تلميذه من الرتبة الممنوحة إليه.
بعد هذه الحادثة، التحق محمد أحمد بالشيخ القرشي، قرر أن يغرس في آذان الناس بذورًا جديدة؛ فجاء عام 1880 وقد انتقل الرجل من الصوفية إلى المهدية.. هل تتخيل أن ينقل الطالب نفسه من التعليم الأساسي إلى الدكتوراه؟ أسمعت بهذه القفزة الجامحة الجانحة من قبل؟ هل شاهدتها حتى في أفلام هوليوود؟
يميل كثيرون إلى تبجيل أنفسهم، ويخلعون عليها لمسة من القداسة من دون وجه حق، وجاءت قفزة القطب على هذه الشاكلة، واستثمر رعونة بعضهم، ووظف الاستخفاف بما خدمه؛ فوصية الشيخ القرشي اختصرت له الطريق، وفيها: "إن زمن المهدي قد حان، وإن الذي يشيد على ضريحي قبة ويختن أولادي هو المهدي المنتظر".
شروط المهدية في متناول اليد، وأن تبني قبة وتختن أولاد القرشي لقاء لقب المهدي لأمر هين، وطفق محمد أحمد ينفذ متطلبات الحصول على شهادة المهدي. وبتحقيق المتطلبات، انتزع اعتراف بعض مريدي القرشي، وأُعلِن في غرة شعبان 1298هجرية، الموافق 29 يونيو/ حزيران 1881، ظهور المهدي رسميًا في جزيرة أبا، وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد باشر تنصيبه مهديًا بصورة نهائية في مجمع الخلفاء والأولياء، وأنه كُلِّفَ بالدعوة إلى مهديته، وأرسل مكاتيب ومنشورات داعيًا للدخول في رحاب مهديته.
صادفت دعوة المهدي هوى في أنفس كثيرين؛ فالأوضاع الاقتصادية والسياسية الضاغطة تدفع الناس إلى الثورة، وعند الغرق يتعلق المرء بقشة علها تنجيه، وكان بين الجموع منجم من أهل البقارة، يدعى عبد الله التعايشي؛ فرأى أن يغتنم السانحة، وأن يشمر للقرد في دولته، وعقد عزمه على أن يضرب بسهم. دخل التعايشي على المهدي، وخر بين يديه ساجدًا مدعيًا أنه أغمي عليه، ولما سئل عن السالفة قال: "نظرت أنوار المهدية على وجهه؛ فصعقت من شدة تأثيرها على حواسي".
ربما كان المهدي يتشكك في مهديته ولو قليلًا، لكن ثقته في مهديته ارتفعت بسجدة التعايشي وكلماته، ومعها ارتفعت مكانة التعايشي؛ فخلع المهدي على المنجم مرتبة الخليفة الأول، ثم قسَّم أصحابه إلى طوائف، منهم أربعة خلفاء راشدين، على رأسهم التعايشي.
خرج الناس يناصرون المهدي لأسباب وجيهة؛ فقد تكاثرت مظالم الرجل المريض (الدولة التركية)، وقد أثقلت الضرائب كواهل السودانيين، واحتكرت طغمة الحكم مقدرات البلاد، واختزلت السودان في مطامعها وأهملت الشعب. ركب البعض موجة الاعتقاد الديني، واتخذ الدين مطية لأهداف سياسية؛ فتابعوا المهدي مع يقينهم بكذبه، لكن الاستياء العام وضعف النظام القائم وتراجع مستوى المعيشة، وإلغاء تجارة الرقيق وحدوث انهيار اقتصادي، وتحطيم مجتمع الجلايا والجعليين والدناقلة، أبرز العوامل التي تضافرت لإنجاح الثورة المهدية.
واجهت الثورة المهدية تحديات إقليمية؛ فالدولة المصرية لا تريد نجاح المهدي، وتشاركها الأطماع البريطانية الهدف نفسه، لكن بريطانيا تود إحراج مصر أولًا، وكان ذلك من حسن حظ المهدي؛ فكسر حملة راشد أيمن، ومن بعده حملة يوسف باشا الشلالي، ثم حملة هيكس وكذلك حملة تشارلي غوردون، وسقطت الخرطوم في يد المهدي.
لم يعش المهدي طويلًا بعد السيطرة على الخرطوم، وبعد إصابته بالحمى لأسبوع، انطفأت شمعة ربيع عمره الأربعين سنة 1885، وجاءت سنوات التعايشي، والأيام دول.