بيولوجيا معطوبة: الإنسان بمسرّاته الإلكترونية

26 يونيو 2020
رُشح Ex-Machina لجائزة "أوسكار" عام 2016 (كيفن ونتر/Getty)
+ الخط -
عند الحديث عن التطور، فإن أول سؤال يتبادر إلى السّامع: "لماذا صارت وتيرة التطور مع البشر بطيئة، أم أنها توقفّت؟". والإجابة ليست صعبة، فهذا حصل لسببين، أولهما "الإبهام المُعاكس"، الذي يتحرك بحرية وفي كل مكان، ويمكنه ملامسة باقي الأصابع في اليد من أولها وحتى آخرها، وهو ما أعطانا ميزة تطورية للإمساك بالأشياء والتعامل معها، بدءاً من الإنسان الأول في غابات السافانا العشبية، وحتى إنسان العصر الحديث مع الأجهزة الذكية. تخيّل كيف ستكون حياتك مع "آيفون" من دون الإبهام؟ السبب الثاني، هو تطور الوظيفة العقلية/ العقلانية عند البشر. وهذا، مع السبب الأول، جعل تطور الإنسان خارجه بدلاً من داخلهِ، فصرنا نصنع الملابس الشتوية بدلاً من الفرو، والأسلحة بدلاً من الأنياب والأظفار الحادّة والأكل عبر الزراعة والتخزين، بدلاً من الصيد الدائِم.
نُلاحِظ أن الإنسان، ومن لحظةِ وعيه بمكانه في الطبيعة، بدأ بالهرب من حقيقته أو من صفته "الحيوانية" في الطبيعة، ليضع نفسه في مكانٍ أعلى. فهو متفوق عليها قطعاً، لأنه يستطيع أن يروضها كلها، وما لا يروضه، يأكله، وما لا يأكله، يستخدمه في الألعاب. بقي صراع البشر مع مكانهم في الطبيعة ومع جسمهم موجوداً، وتطور مع مرّ الزمنْ. صارت هُناك الفلسفة التفوقية لاحقاً، وعقلية أن الإنسان بوظائفه الذهنية يتسامى على هذا الوجود، وأنه يسعى بتفوقه إلى تحقيق الخير والعدالة تصل للمثالية، ولكن العائق الوحيد، هو العقل الغريزي الحيواني نفسه.
في أحد أفلام جيمي نيوترون (2001)، يواجه جيمي نوعاً فضائياً متطوراً للدرجة التي دفعته إلى التخلي عن الوظائف البيولوجية لأجسادهم، ودمج أنفسهم في آلات (سايبورغ)، لتكون عندهم فقط الوظيفة العقلية هي الفعّالة من دون اللجوء إلى وظائف الجسد (الأكل/ الشرب/ قضاء الحاجة/ الجنس)، وهي رغبة بشرية "ترانسدنتالية"، ولكنها في الوقت نفسه، تخالف الغرائز الأساسية فينا. كيف سنتكاثر؟ ماذا عن المتعة الجنسية؟

ناقشت العَديد من الأفلام هذه الإشكالية، وربما كان فيلم Transcendence (2014) واحداً من أهمها، والذي على الرغم من عدم نجاحه السينمائي الكبير، إلا أنه ناقش المشكلة باستفاضة. أن تنقل وجودك البشري بوظيفته العقلية فقط على ذاكرة حاسوبية لتكون موجوداً عليها للأبد، من دون الحاجة لأيٍّ من الوظائف البيولوجية الأخرى. ولكن هذه الانتقالة طبعاً تعني خسارتنا لأمر آخر، وهي الوظيفة العاطفية والتعاطفية في العملية. سؤال كليشهي: "ما الذي يجعلنا بشراً؟". تكون الإجابة دائماً هي مشاعرنا المتناقضة تجاه الأشياء، فهي التي تُعرفنا. هكذا حاولت هوليوود دائماً تصوير الأمر.


في مُسلسل Person of Interest من كتابة جوناثان نولان، الذي يتحدث عن تطوير آلة ذكية جداً يمكنها مراقبة وتوقع التصرفات البشرية للكشف عن التفجيرات والهجمات الإرهابية المتوقعة، يخاف المبرمج أو الصانع أو الخالق لهذه الآلة فيقوم بتقويض قدراتها، ولا يمنحها الإرادة لاتخاذ القرارات. يسأله أحد أصدقائه: "لماذا لا تطلق سراحها؟". يجيبه: "لو أننا أعطيناها هذه القدرة، وطلبنا منها أن توفر لنا حلّاً للقضاء على المجاعة في منطقةٍ ما، وكان الحل بالنسبة إليها هو القضاء على الناس في تلك المنطقة، فما الذي يمنعها من تطبيق الأمر؟". فعلياً، تُعتبر الإبادة حلّاً، فهي تقضي على المشكلة الظاهرة، ولأن الآلة مُجردة من التفكير العاطفي، فلن تفكر في تبعات الأمر، ولن يكون لديها أي كوابيس أو ضمير لتعاني من سوء القرار. لهذا السبب بالذات، لم تكن الآلة في المُسلسل حُرة الإرادة.


بالعودة إلى فيلم Transcendence، ماذا يعني أن ينقل البشر عقلهم إلى آلة؟ وما الذي يختلف عندها عن محاولات الوصول إلى التفرد Singularity في الذكاء الاصطناعيّ؟ مرحلة التفرّد هي قدرة الآلة على برمجة نفسها بنفسها واتخاذها القرارات من دون العودة إلى البشر. كثير من العُلماء، مثل ستيفن هوكينغ وإلون ماسك، أشاروا إلى أن الوصول إلى هذه المرحلة لن يساعدنا على التطور بقدر ما سيرمينا باتجاه انقراضنا المُنتظر.

في فيلم Ex-Machina (2014) الحائز جائزة الأوسكار في تصنيف أفضل مؤثرات بصرية، يعمل أحد أثرياء التكنولوجيا في العالم على خلق أنثى آلية بشكل بشري وتعمل بالذكاء الاصطناعيّ. يستضيف هذا الثري أحد موظفيه ليساعده في تحديد عيوب وتطوير الأنثى الآلية، وبعد سؤاله عما إذا كان على دراية باختبار تورينغ، يخبره الصانع بأنه يريد منه أن يحكم على ما إذا كانت آفا (الآلة) قادرة حقاً على التفكير والوعي على الرغم من أنها مصطنعة.
علاوة على ذلك، يجتاز الموظف الاختبار إذا نسي أن آفا ليست بشرية خلال جلساتهم اليومية. لاختصار الوقت، يقع الموظف بعد فترة في حُب الآلة وينسى أنّها آلة فعلاً (لأنها صممت حسب تفضيلاته الجنسية، دون علمهِ)، ولكن يتبين له أن الآلة خدعته ليساعدها على التحرر من قبضة الصانعِ. في نهاية الفيلم، تقتل الآلة صانعها، وتهرب بشكلها البشري من المكان دون أن يكون أي أحد قادراً على التمييز بأنها آلة حقاً.


كل أفلام الذكاء الاصطناعي أو التخلي عن الوظائف البشرية تنتهي بذات النهاية تقريباً. إما بانتظار الذكاء الاصطناعي أو الإنسان الذي حوّل عقله إلى آلة، ولكنه يصير عقلانياً بدون أي عواطف، والأمر نفسه يعني بداية النهاية بالنسبة إلى البشر، لتبدأ معركتهم ضد هذا الذكاء الخارق المرتبط بكل قواعد البيانات حول العالم، ويتحكم بالإنترنت والبنوك، وبإمكانه "فعلياً" تحريك الجيوش وصناعة الهويات وخداع البشر كافّة.
أو أنه ينتهي بالشكل الآخر، حيث يتمكن البشر من فصله عن باقي الشبكة أو منعه من التمدد، كي لا يشكل خطراً، وقد حصل هذا الأمر حقيقة وليس في الأفلام فقط (في مقر شركة فيسبوك) أو بالعودة إلى الشكل الطبيعي لتواصلنا البشري، وهو فشل التكنولوجيا في تحقيق أي شيء لنا باستثناء خدمتنا في مخادعة أجسادنا لتحقيق الرغبة، مثل ما حصل في مسلسل Maniac، حيث كانت إحدى الشخصيات تستخدم محاكاة عقلية لممارسة الجنس مع إحدى الشخصيات الكرتونية، باستخدام خوذة محاكاة وجهاز آخر للوظيفة العضوية.
المحاولات الهوليوودية والتلفزيونية هي ذاتها المحاولات الأدبية، التي تنطلق من أسئلة الواقع بالمقام الأول. هل يمكن تفوقنا البشري أن يستمر عقلاً من دون العاطفة؟ ولماذا هذه الرغبة العارمة في خلق التفرد؟ هل تحقيقنا للخلود عبر الآلة سيعني نهاية البشر والتكاثر؟ ألا يخالف هذا غريزة البقاء؟ تكون الإجابة في Downsizing (2017)، بأن رغبتنا الدائمة في الحياة في اللحظة، هي سبب انقراضنا، فنحن أقصر الكائنات عُمراً على الأرض (200,000 سنة)، إلا أننا أفشلها، بل نكاد نكون أفشل من بعض الحشرات الصغيرة في البقاءِ كجنسٍ واحدٍ متوحدٍ.
المساهمون