يُسجّل انهيار مبانٍ عدّة في مناطق فرنسية مختلفة، لا سيّما في مرسيليا والعاصمة باريس. الأمر الذي يدعو إلى التوقّف عند تلك المشكلة. هي أكثر من مجرّد مشكلة لسكان تلك المباني الذين لا تتوفّر لهم خيارات أخرى.
من حين إلى آخر، تتناول وسائل الإعلام الفرنسية أخباراً عن انهيار مبانٍ في مناطق مختلفة من البلاد، أمّا الأسباب فتختلف. قِدَم تلك المباني أو إهمال صيانتها يؤديان دورهما في ذلك، تماماً كما حوادث تسرّب الغاز أو حرائق ناجمة عن نسيان سيجارة مشتعلة، على سبيل المثال، أو غير ذلك.
رشيد زريوي، مستشار بلدي مكلف بالوساطة والارتباط الاجتماعي في مدينة مونتروي بالضاحية الباريسية، يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "الأسباب المؤدية إلى انهيار المباني متوفّرة في كل مدينة، ومدينة مونتروي ليست استثناء. مبانٍ كثيرة منها عتيقة ولا يبذل مالكوها جهوداً كافية لصيانتها. كذلك فإنّ بعض المواد المستخدمة في البناء قديماً لم تكن تراعي شروط السلامة. ثمّة مواد قابلة للاشتعال، الأمر الذي يجعل الخطر داهماً". ويقرّ زريوي بأنّ "البلدية في مونتروي لا تستطيع القيام بكلّ شيء، وسط نقص كبير في السكن الاجتماعي"، مشدداً على أنّ "السكن الاجتماعي ضرورة من أجل إخلاء المباني التي تمثّل تهديداً لسكانها، ما يدفع هؤلاء إلى الانتظار".
في السياق، تؤكد وزارة الداخلية الفرنسية، على موقعها الإلكتروني، أنّ سوسيولوجيا الأحياء الباريسية وطبيعة التشييد تلعبان دوراً كبيراً في تصنيف المخاطر التي تتهدّد المباني. ففي الأحياء الراقية، تبدو "العمارة الهوسمانية"، نسبة إلى السياسي والمعماري جورج أوجين هوسمان (1909-1891)، مع واجهاتها الحجرية، صلبة في معظم الأحيان، ويتعهّدها مالكوها بالصيانة. علماً أنّهم كذلك ساكنوها عموماً. لكنّ ثمّة فوضى قد تتعرّض لها تلك المباني تطاول خصوصاً المطابخ والحمّامات التي تؤثّر عليها سلباً المياه الجارية والتسرّبات في الأرضية. كذلك ثمّة عيوب أخرى قد تظهر، لا سيّما في الشرفات، خصوصاً حين تكون مياه الأمطار قادرة على اختراق الحجارة المستخدمة.
أمّا الأحياء الشعبية في العاصمة، حيث السكان بمعظمهم من المستأجرين، فهي تعاني غياب الصيانة، الأمر الذي يؤثّر بشكل رئيسي على عناصر البناء والأرضية وكذلك أسس البناء. هناك، المباني شُيّدت، في الغالب، بسرعة، من أجل إيواء عمّال متخصّصين في "الأشغال الهوسمانية" الكبرى، ويأتي بناؤها سيئاً، استُخدم فيه الخشب المطلي. أمّا الأرضيات فتأتي بأحجام غير ملائمة ومن دون أسس. وهذه العيوب في البناء، مع غياب الصيانة على المدى الطويل، تسببت في أوضاع مقلقة، واستدعت فتح ملفات مخاطر عدّة.
وثمّة مفارقة كبرى تسجّل في فرنسا تتمثّل في أنّ عدد المساكن الشاغرة تصل إلى نحو ثلاثة ملايين مسكن، مع الإشارة إلى أنّ 375 ألف مسكن جديد تُشيَّد في كل عام. ويأتي ذلك على حساب تجديد المساكن الموجودة في قلب المدن وإصلاحها، علماً أنّها تمثّل ثمانية في المائة من مساحة المساكن المأهولة.
مشهد من الانهيارات الأخيرة في مرسيليا (جيرار جوليان/ فرانس برس) |
لا نبالغ في القول إنّ المباني المعرّضة إلى مشكلات ومخاطر تقع بمعظمها في أحياء فقيرة وشعبية، كما هي الحال في مرسيليا، وتحديداً في "حيّ نواي"، حيث إن مباني كثيرة أوضاعها متردية وأخرى غير صالحة للسكن، على الرغم من أنّها مكتظة. وثمّة مبان تنتظر الترميم منذ 15 عاماً، باعتراف من قبل مسؤولي البلدية. وتحصي السلطات المحلية ستة آلاف ملكيّة مشتركة "هشّة" في مرسيليا وحدها.
الانهيارات الأخيرة في مرسيليا والتي وقعت في وسطها، وتحديداً في شارع أوبانيي، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، طاولت ثلاثة مبان وأدّت إلى سقوط قتلى وجرحى بين السكان وتشريد آخرين. تجدر الإشارة إلى أنّ أحد المباني التي سقطت كان في ملكيّة البلدية، وكان قد صدر قرار يعدّه معرّضاً للخطر في عام 2008، فأخلي من سكانه في انتظار هدمه. أمّا المبنى الثاني فقد كان يضمّ 12 شقة، تسع منها مأهولة، في حين أنّ أجهزة البلدية المختصة كانت قد أوصت بضرورة إنجاز أعمال إصلاح ونقل السكان إلى مساكن أخرى. بالنسبة إلى المبنى الثالث، فقد أخلته في صيف 2012 شركة عقارية، لكنّه انهار في أثناء عمليات رفع الأنقاض التي كان ينفّذها رجال الدفاع المدني.
وتثير قضية الملكيّة المشتركة هاجساً يقلق السلطات العمومية الفرنسية، لذا وُضع قانون "ألور" الذي صدّق عليه في عام 2014 والذي يلزم كل الملكيات المشتركة بالحصول على رقم في السجلّ الوطني للملكيات المشتركة. من شأن ذلك أن يسمح بإحصاء تلك الملكيات التي تُستخدَم كمساكن، ثم تستخدم الدولة المعلومات من أجل تقدير هشاشتها. يُذكر أنّ القلق نابع من عدم تسجيل 68 في المائة من تلك الملكيات المشتركة. يُذكر أنّ بلدية مرسيليا أرجعت الانهيارات الأخيرة فيها إلى الأمطار الغزيرة التي هطلت في الأيام التي سبقت الكارثة، وهو ما رفضته البلدية التي تشير إلى تزايد المساكن غير الملائمة لسلامة الأفراد في مرسيليا. وتفسّر النائبة الاشتراكية في مجلس الشيوخ، سامية غالي، الأمر بأنّه تعبير عن "فشل سياسة السكن في وسط المدينة".
بالنسبة إلى الدولة الفرنسية، فإنّ تلك المباني العتيقة "آفة يجب التخلص منها بسرعة". وقد أقرّ وزير الإسكان الفرنسي، جوليان دو نورماندي، بأنّ الدولة حدّدت 14 موقعاً غير ملائمة لسلامة الأفراد وذات أولوية في فرنسا، بسبب تهالك مساكنها. وأوضح دو نورماندي أنّ ثمّة مواقع منها في مدن لا يتوقّعها أحد، وقد تمّ تحديدها في إطار خطة "مبادرة الملكيّة المشتركة" التي تهدف إلى "تحويل وتجديد بعض المساكن وتفادي هشاشتها"، على الرغم من أنّها لا تمثل مشكلات أمنية على السكان. يُذكر أنّ في مرسيليا وحدها، 40 ألف سكن تمثّل خطراً، بحسب تقرير تسلمته الحكومة في عام 2015، غير أنّ شيئاً لم يُنجَز، وازداد الوضع سوءاً. وهو ما تؤكده التظاهرات المستمرة التي تحمّل البلدية ورئيسها، جان كلود غودان، مسؤولية كل الضحايا وتلك الحياة البائسة.
في التقرير الرابع والعشرين لمؤسسة "آبيه بيار" الذي أشرف عليه مانويل دوميرغ، والذي صدر في فبراير/شباط من عام 2019، يتبيّن أنّ 15 مليون فرنسي هم في أوضاع صعبة، منهم من لا يملك سكناً، وأربعة ملايين في حاجة عاجلة إلى السكن، و12 مليوناً في وضع هشّ في ما يخصّ الاكتظاظ السكاني أو التهديد بالطرد أو الملكيات المشتركة المتردية، بالإضافة إلى غياب وسائل الطاقة (كهرباء وتدفئة وغيرهما). والخلاصة، هي أنّ فرنسيّاً واحداً من بين كلّ خمسة فرنسيين حاصل على سكن غير لائق. في السياق، تشير إحصاءات حكومية في فرنسا إلى وجود نحو 143 ألف مشرّد، وهو رقم تعدّه جمعيات تهتمّ بالأمر، أدنى بكثير من الواقع.
على الرغم من أنّ مرسيليا شهدت الحوادث الأكثر مأساوية في هذا المجال، فإنّ فرنسا ككلّ تضمّ، بحسب تقديرات وزارة السكن، نحو 450 ألف مسكن غير ملائم لسلامة الأفراد. وهذه الهشاشة تسجّل في أحياء قريبة من العاصمة، تحديدا في مدينة سان دوني، حيث تمّ إجلاء سكان مبنى في سبتمبر/أيلول الماضي، بعدما بدأ ينهار بعض من الطابقين الثاني والثالث.
وفي هذا السياق، يقول مهندس السلامة في بلدية سان دوني، جمال آيت وازّو، لـ"العربي الجديد"، إنّ "حالة المبنى الذي تمّ إخلاؤه ليست حالة معزولة"، ويذهب أبعد من ذلك وهو يشير إلى أنّه "من المحتمل أن يكون 40 في المائة من السكن الخاص في مدينة سان دوني إمّا في حالة خطر أو غير ملائم لسلامة الأفراد". ويؤكد آيت وازّو أنّ "المباني التي أخليت تظلّ تمثّل خطراً على سلامة المباني المجاورة، ما لم تُهدَم وتُشيّد أخرى جديدة". يُذكر أنّ الحكومة حدّدت 14 موقعاً ذا أولوية، وهو ما يعادل 450 ألف مسكن غير جدير بالسكن في فرنسا. وإلى جانب مرسيليا، ثمّة مواقع في رين وتولوز وسان دونيه وغيرها. ومن أجل إيجاد حلول لتلك "الآفة"، قررت الحكومة صرف مليارَين ونصف المليار يورو.
وإلى أن تقضي الحكومة على تلك "الآفة"، فإنّ معاناة سكانها ومآسيهم مستمرة، مع ما يشكّل ذلك من مخاطر عليهم. وليس سرّاً أنّ هؤلاء المتضررين معظمهم من غير الفرنسيين، من المهاجرين العرب والأفارقة والآسيويين. في سان دوني، يقول التونسي جواد الغازي، لـ"العربي الجديد"، إنّه يقطن في غرفة واحدة مع زوجته وبناتهما الثلاث، مؤكداً أنّ "طلبي في السكن الاجتماعي لم يُستجب له منذ سبعة أعوام". يضيف: "قلت لزوجتي في البداية إنّنا سوف نقيم عاماً واحداً أو عامَين في هذه الغرفة التي تأكلها الرطوبة وتعبرها من حين إلى آخر بعض الفئران، على أمل الحصول على سكن معقول. لكنّ السكن لم يأتِ بعد، فيما رزقنا الله ثلاث بنات". يُذكر أنّ الغازي غير قادر على الانتقال إلى سكن خاص، لأنّ إمكاناته المالية لا تسمح بذلك.
من جهته، يقيم المغربي رضا الجمالي منذ 13 عاماً في بيت للعمّال، قرب محطة ميترو روبسبيير في مونتروي، شاغلوه معظمهم من مالي. يقول لـ"العربي الجديد": "على الرغم من طلبات السكن العديدة، ما زلت هنا. المبنى قديم ومكتظ بالسكان، وإجراءات السلامة غير متوفّرة فيه، فكثيرون يدخّنون ويطبخون في غرفهم، والبلدية لا تفعل شيئاً". لكنّ رشيد زريوي يعترض قائلاً: "ليس صحيحاً أنّ البلدية لا تفعل شيئاً، لكنّها لا تستطيع القيام بأكثر من ذلك، وهي أنجزت في مجال السكن الاجتماعي ما يقرّره القانون، في حين أنّ بلديات أخرى، خصوصاً اليمينية منها، ترفض تشييد سكن اجتماعي بحسب القانون وتلجأ إلى الغرامات".
ويلخّص الباحث قدور زويلاي، الذي يقطن مدينة مونتروي، الأمر لـ"العربي الجديد" قائلاً إنّ "المهاجرين بمعظمهم موجودون في بلديات يديرها اليسار". ويسأل: "لماذا لا ترغم الحكومة البلديات التي يديرها اليمين على فتح أذرعها لهؤلاء المواطنين الفقراء؟ ثمّة نسبة معيّنة من السكن الاجتماعي يجب على كلّ مدينة فرنسية الالتزام بها. فلماذا هذا التساهل؟".